2024
Adsense
مقالات صحفية

القروي والعاصمة.. (8-15)

خميس بن محسن البادي

تابعنا في الجزء الذي سبق وفاة جهينة وجنينها وانسحاب شكيل من حياة أهلها بعد تنازله عما تركته من ميراث وترقية شكيل لمنصب أعلى في الوزارة حيث يعمل بعد حصوله على مؤهله الجامعي الأول، وتحسن حالته المالية وبناء مسكن خاص به في العاصمة وآخر لوالدته في القرية ومساهمته المالية في أعمال الخير ومواصلته لدراساته الجامعية العليا…

وتمضي الأيام وكثيراً ما تواجه المرء مفاجآت ومواقف لا يتوقع حدوثها أو مصادفتها في حياته خاصة تلكم التي عايشها سواء سلباً أو إيجاباً ولطالما اعتبرها من الماضي وأنها ذهبت بمرور الزمن في غياهب النسيان، فهذا شكيل يسير ليلاً في أحد شوارع العاصمة عائداً لمنزله بوقت متأخر والطرقات هادئة من السيارات إلا قلة منها التي تمر في هذا الطريق وأخرى في ذاك الشارع بين كل بضع دقائق، والهدوء يعم المكان. وهو في طريقه لمح فجأة سيارة خارج الشارع في غير وضعها الطبيعي ولم يؤْثر الذهاب دون التحقق مما شاهده لربما ثمة طارئ في الأمر وهناك من يحتاج المساعدة، فاستدار ناحية تلكم السيارة فوجدها متدهورة وإذا به يجد أُسرة بداخلها بين الحياة والموت فلم يكن منه إلا أن بادر في نقلهم إلى المستشفى، حيث بذل جهوداً مضنية حتى استطاع بمساعدة عابر سبيل آخر توقف لتقديم العون والمساعدة فنقلا معاً أربعة أشخاص هم ركاب السيارة المتدهورة إلى سيارته وتوجه بهم سريعاً إلى أقرب مستشفى بعد أن قدّم شكره السريع لعابر السبيل على مساعدته له، وأمام مدخل طوارئ المستشفى تولى الطاقم الطبي وهو يساندهم إدخال المصابين-الأب والأم وطفلين- لغرف العلاج، لكن لم يكن بحوزتهم ما يدل على هوياتهم فعاد هو إلى السيارة بحثاً عما قد يمكن العثور عليه من دلالات تثبت هويات المصابين لتسجيل الحالات رسمياً في السجلات الطبية بالأسماء الصحيحة ولمعرفة شخصية كل منهم ليساعد ذلك على اتخاذ الإجراءات المتبعة، بينما تولى المختصين بالمستشفى أمر إسعافهم وتقديم العلاج الطبي لهم وتبليغ مركز الشرطة عن الحادث لحين عودته، وعاد شكيل ومعه رزمة من الوثائق الرسمية سلمها الممرضة الموجودة دون أن يطلع هو عليها، وبعد أن قدّم ما لديه من معلومات عن الحادث لرجل الشرطة الذي وجده قد حضر قبل بعض الوقت غادر هو المكان متوجهاً إلى منزله داعياً الله سبحانه وتعالى لهذه الأسرة المنكوبة بالشفاء العاجل، وبمرور يومين على ذلك دعته شهامته ونبل أخلاقه لزيارة تلكم الأسرة سيئة الحظ نتيجة ذلك المَصاب ليطمئن على حالهم، فتوجه إلى المستشفى لزيارتهم والإطمئنان عليهم وبوصوله عرف من طاقم التمريض أن أحد الأطفال ووالده قضيا نحبهما نتيجة إصاباتهما البالغة، فيما لا تزال الأم والطفل الآخر تحت الرعاية الطبية المشددة، فغادر دون أن يتمكن من رؤيتهما لمنع الزيارة عنهما طبياً، وبعد بضعة أيام مضت عاود شكيل زيارته للمستشفى ليطمئن على الأم وطفلها وقد صُدم حين عرف أن الطفل فارق الحياة هو الآخر قبل ثلاثة أيام، وجال في ذهنه وفكره مآل حال الأم إذا ما تعافت وعرفت المصاب الجلل والأليم الذي حل بها، وتنبه على صوت الممرضة الوافدة وهي تحثه على رؤية الأم عله يطمئنها بطريقته ويهدئ من روعها مؤكدةً له أنها استعادت وعيها لكنها لا تزال تعبة، فظل في حيرة من أمره فهو لا صلة له بها، وفي الوقت ذاته علم بعدم وجود أحداً من معارفها معها، فما العمل تجاه هذا الأمر الذي وجد شكيل نفسه في خضمه؟ تساءل في نفسه دون أن يجد الجواب الذي يساعده على اتخاذ القرار المناسب لكنه وجد أخيراً ما يمكنه أن يقوم به، فقد هداه تفكيره إلى سؤال الممرضة ذاتها والتي تعمل بالجناح الذي ترقد فيه الأم الثكلى والتي تقاسي ألم الجراح من أجل البقاء، وأي بقاء قد يهنأ لها بعد أن فقدت كل أسرتها؟ سأل الممرضة عن مدى معرفة المريضة بوفاة زوجها وطفليها وعن أهلها وزيارتهم لها، فأعلمته بعدم إعلامها حتى اللحظة عن أمر وفاتهم وأنها لم يزرها زائر أو يسأل عنها سائل مطلقاً مؤكدةً له تسليم الجثث لذوي الزوج الذين لم يسألوا عن حال الأم قط ما جعله هذا الرد أكثر حيرة وإشفاقاً على المريضة، فقرر أن يغادر حينها المكان على أن يعاود زيارتها لاحقاً علها تكون قد استعادت شيئاً من عافيتها كي يتمكن من رؤيتها لإخبارها بوفاة زوجها وطفليها، منبهاً على الممرضة ومن يحل مكانها من بعدها ضرورة كتمان الأمر عنها حتى عودته إليها، فهل سيتمكن شكيل من إيصال خبر وفاة أفراد أسرتها إليها؟ وكيف سيتصرف معها وهو يُعلمها عن ذلك خاصة وأن الجثث استلمها أقاربهم دون السؤال عنها هي؟

أسئلة كثيرة محيّرة تراكمت في ذهنه، ولكن حيرَته وتساؤلاته أوصلته إلى قناعة بأن هذه المرأة لا بد وأنها ليست على صلة وتواصل مع أهلها وأهل زوجها الراحل وأن علاقتها بهم ليست على ما يرام، وإلا فكيف لهم أن يتركوها دون حتى السؤال عنها؟ بينما هو يشفق عليها لما آل بحالها ويرى أنه لا بد من الوقوف إلى جانبها من الناحية الإنسانية، وكونها أخت في دين الله وهي الجريحة المريضة التي لا حول لها ولا قوّة إلا من عطف الآخرين عليها ووقوفهم إلى جانبها في محنتها هذه، وبذلك قرر أن يدعمها ويقف معها حتى تستعيد صحتها وعافيتها وتغادر المستشفى لتطالب بحقها من تركة زوجها الراحل، لتعيش عيشة كريمة ما بقى لها من عمر بمساعدة الدولة لها، فهي صارت في عداد الأرامل وحق الجهة المختصة التكفل بها إلى أن تتزوج مجدداً، هذا ما فكرّ به شكيل ليكون في صالح هذه المسكينة لاحقاً، ولذلك عاود زيارتها ووصل المستشفى ودخل الجناح الذي ترقد فيه ومن رقم السرير عرفها أنها هي من جاء لرؤيتها فهو لا يعنيه اسمها ومن تكون بقدر ما يهمه مساعدتها لوجه الله تعالى، لكن ما إن رآها إلا وتسمر في مكانه، نعم إنها هي، لم يخنه نظره، أمعن النظر في وجهها وعادت به الذاكرة سريعاً لبضع سنين إلى الوراء ليكون شبه متيقن من أنها هي- سهيلة-، سهيلة طهر ونقاء الطفولة في قريته، نعم هي بجمالها الأخاذ، فقط بشرتها عادت بيضاء وذهب عنها اللون البرونزي الذي كانت قد اكتسبته بشرتها في صغرها نتيجة حرارة الشمس ومداومة وجودها تحت أشعتها وعوامل المناخ في القرية، تقدم إليها وسلم عليها واطمأن على صحتها فشاهدت أمامها رجلاً متوسط في طول قامته، نحيف الجسد، لحيته الأنيقة المهذبة زادته وقاراً وهيبة على وسامة شخصيته ورزانتها، ولباسه الراقي فسألته عن زوجها وولديها وعمن يكون هو؟ فسألها هو، ألستِ أنت سهيلة إبنة فلان من القرية الفلانية؟ فردت عليه بالإيجاب، متسائلة، ولكن من تكون أنت؟ أنا شكيل إبن نفس القرية، هكذا كان رده لها بصريح العبارة ومن غير تحفظ أو تكتم لكن في الوقت ذاته تحفظ على الأجزاء المتبقية من حياته بامتداداتها ووقائعها التي اعترضته منذ أن فرّقت ظروف الحياة بينهما؛ وذلك لعلمه بعدم ملاءمة الظروف في الخوض أكثر مما أفصح عنه لها في تلكم اللحظة، وعدم علاقتها هي بتفاصيل حياته، فتمنى لها الشفاء ووعدها بزيارة أخرى ريثما تستعيد عافيتها أكثر بعد أن أوهمها أن أفراد أسرتها تم نقلهم إلى مستشفى آخر متخصص في العناية بالإصابات التي لحقت بهم، وقد طمأنها كذباً بصفة مؤقتة أن حالتهم في استقرار، وبذلك غادر المكان دون أن يخوض معها في أية تفاصيل أخرى، وبعد أن أبلغ طاقم التمريض ما قاله لها وما يجب أن يوهموها به أيضاً إن هي سألتهم حتى عودته إليها مجدداً، وبعد أيام عاود زيارته لها وقد وجدها أفضل حالاً وفي تحسن ملحوظ، وبعد مقدمات وشروحات أسهب فيها، أخبرها عن وفاة زوجها وولديها، ولا شك أن ما سمعته قد صدمها ولكنها كانت متوقعة خبراً سيئاً من وراء الحديث المطوّل الذي سبق به شكيل إعلان الوفاة لها، ولم يكن أمامها إلا أن تتقبل وقع الخبر ولو على مضض، ولكن عبرات الحزن والأسى غالبتها على فراق ولديها وزوجها وتسابقت دموعها منساقة على خديها بحرقة لتتغلغل في ذاتها غصة ألم، نعم إنه ألم الفراق الأبدي للأحبة، فهدّأ شكيل من روعها وطمأنها وذكّرها بسنة الحياة والموت، وبعد أن وجد في نفسها الهدوء وتقبلها الخبر المحتوم والمصاب الأليم غادر مودعاً إياها على أمل أن يزورها في وقت لاحق، وخلال هذه الفترة زار شكيل القرية وعرفت منه والدته بما تعرضت له سهيلة، كما عرف هو منها انقطاعها عن أهلها منذ فترة مضت من الزمن دون توضيح الأسباب، كما لم يشأ هو أن يتتبع تلكم الأسباب معتبراً أن ذلك شأن شخصي لا يعنيه، وأنه يراه أمراً لاحق له في التدخل في تفاصيله وهو لا يعنيه البتة، ولكنه سألها بمدى علمهم في القرية عن أمرها فأخبرته بعدم سماعها عن ذلك سواء من أهلها أو من باقي السكان، وبذلك استشارها عما إذا يمكن إبلاغ أهلها عنها من عدمه فهم أبناء قرية واحدة وقد يكون لا علم لديهم بأمرها، وبينما هو على دراية تامة بمأساة إبنتهم رأى أنه من غير الجائز عدم إبلاغهم بذلك لما بينهم في عموم القرية من الود والاحترام المتبادل.

وللحكاية أحداث تالية، سنتابعها في الجزء المقبل بإذن الله تعالى.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights