القروي والعاصمة (5-15)
خميس بن محسن البادي
الجزء الذي سبق، ساق لنا في مضمونه زواج شكيل من جهينة السرّي والمتواضع بتكاليفه، وزواج سهيلة من آخر، لنواصل في هذا الجزء أحداثاً أخرى.
بعد أن اقترنت سهيلة بمن اختير لها أو جاء يطلبها للزواج، قرر شكيل أن يأخذ زوجته جهينة إلى القرية لتتعرف على والدته ويعلن زواجه هناك، لكن كيف ذلك والرحلة إلى القرية تتم وفق مجموعات في الرحلة الواحدة؟ ويندر أن تتواجد امرأة بين مجموعة من الرجال الغرباء، وإن حصل فهم في الغالب أقاربها، وهو لا يرضى لنفسه بأن تكون زوجته بين تلكم المجموعات في سيارة واحدة، لكن ما من سبيل عن هذا الأمر إذا ما قرر تنفيذ ما نوى عليه، وبعد أن عرض الأمر على جهينة وشرح لها مسار الرحلة وكيفية الوصول لقريته، تحفظت على أمر مرافقته تاركة خيار ذلك له مؤكدةً بأنه صاحب القوامة والرأي في ذلك، فوجد تحفظها سنداً داعماً لرأيه بعدم رغبته في اصطحابها معه للظروف التي يعلمها هو والتي أوضحها لها.
وفي القرية حيث وصلها شكيل دون زوجته، لم يخفي على والدته هذه المرّة زواجه من جهينة، والتي تملّكها الذهول والاستغراب مما سمعته، غير مصدقة ما قاله، لكنه أكّد لها ذلك لتشتاط عليه غضباً وهو ابنها الوحيد الذي كانت تتمنى أن تزوّجه بطريقتها وتفرح معه بيوم زواجه، وازدادت غضباً حين عرفت أنه تزوّج من العاصمة، مؤكدة له أنه نسي ما ربته عليه من قيم وأخلاق، وتجاهل فضائل أهل قريته عليه في صغره، ووفقاً لتفكيرها العفوي والبسيط أنه أغرم بالنساء في العاصمة هناك، ما جعله يُقدم على ما أقدم عليه بزواجه من إحداهن، وبذلك لم تقبل منه الأعذار وحتى زواج سهيلة من آخر لم يشفع له معها حين اتخذه عذراً أمامها، لترد عليه بأن ثمة صبايا في القرية غيرها وهنّ في سن الزواج، وكان أولى به أن يقترن بواحدة منهن، ولهذا هي لم تتفق معه على زواجه من غير القرية، ولم تتقبل مطلقاً أمر زواجه هذا الذي جاء ينبؤها عنه، فغادر القرية وأمّه في أوج غضبها عليه دون أن تقبل له عذراً أو تغفر له فعله الذي اعتبرته فعلاً شائناً لِما أقدم عليه واقترفه من وجهة نظرها، وللمرة الأولى في حياته يغادر بيت والدته دون أن تودعه وتدعو له، حتى أنه اعتزل الحديث مع رفاقه طوال الرحلة وهم في سيارة الجيب، ولولا الحياء لذرف الدموع لشدة ما في قلبه من حرقة، في الوقت الذي هو ممتنٌ فيه لهذه الظروف التي ساعدته على عدم مجيء جهينة معه للقرية حتى لا تجد الإعراض وعدم القبول، والذي وجده هو من والدته، فهو بين المطرقة والسندان، مطرقة غضب والدته، وسندان راحته مع زوجته التي وفرت له حتى اللحظة كل سبل الحياة الزوجية الطيبة، ولم يجد منها ما يدعو إلى فراقها والتخلي عنها، فهل له من خروجٍ إلى سبيل من هذا المأزق؟
وفي طريقه إلى العاصمة وهو يقود مركبته ويكفكف دمعتا حزن فاضتا من مآقيهما، تعرض لحادث سير جسيم أنجاه الله منه من موت كاد أن يكون مُــحَــققاً في غرابته لولا لطفه سبحانه وتعالى به، ولكن المؤمن الحق هو من لا يستبعد مقدرة القادر المقتدر على تصريف القدر والتقدير إلى ما هو أبعد وأشد من ذلك غرابة، ولو أنه أصيب بجسامة استدعى الأمر إلى وضعه في العناية الطبية المشددة لعدة أيام، لكنه لم يفقد حياته ولله الحمد، ليعاد بعد ذلك إلى التنويم العادي في المستشفى، وقد خسر نتيجة ذلك الحادث سيارته التي لم تعد صالحة للاستخدام بسبب عدم قابلية إصلاحها، وطوال الشهرين والنصف وهي المدة التي قضاها في المستشفى لم يسامح نفسه ولم ينسى غضب والدته عليه، مرجحاً أن ما حدث له بسبب ذلك وحال لسانه يقول أنه عقاب إلهي عاجل ومستحق قدّره الله عليه، مستغفراً ربه ومتضرعاً إليه ليهديه ويوفقه إلى صلاحه في الدنيا وصلاح أمره مع والدته، كل ذلك والأم على غير علم بما حدث لابنها، وفي المقابل لم تطاوعه نفسه إخبار زوجته جهينة بردة فعل أمه بشأن زواجهما وآثر أن يجعل ذلك سراً في نفسه حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وفي حين هي لم تجعله يشعر بالوحدة والمعاناة، فطوال مدة مرضه ووجوده في المستشفى وهي بالكاد تبارح المكان لتعود إليه مسرعة تلبي جميع طلباته، حتى وهو في المنزل يتمتع بفترة راحة بعد تلكم المحنة لا تغادر عنه أبداً فمنذ تعرضه للحادث طلبت من مؤسسة عملها كل أرصدة إجازاتها بل وأضافت بعض المدد عليها بدون راتب، كل ذلك لتتفرغ لبعلها الطيب وحبيب قلبها الحنون، حيث وقفت إلى جانبه أماً وزوجاً وطبيبة وممرضة، كما كان لزملاء مهنته وقفةً معه في ذلك من وقت لآخر- فكونه أعلم والدته بزواجه فلم يرَ ضيراً من عدم إخبار زملائه بالأمر أيضاً والذين باركوا له ولزوته ذلك وتمنوا لهما السعادة في حياتهما الزوجية.
وكان لعزيمة شكيل وقبوله بما قدّره الله تعالى له وإيمانه المطلق بذلك وبمنّه وكرمه عز وجل، ثم بفضل وقوف جهينة والزملاء معه أدواراً فاعلة وحوافز مشجعة لتجاوز محنته الصحية، ودافع ساعده على نسيان الألم واندمال الجروح والشفاء بفضل الله تعالى.
وأخيراً وبعد أكثر من أربعة أشهر قضاها بين المستشفى والبيت في رحلة علاجية كلفته الكثير من صحته الجسدية والنفسية، ها هو شكيل يخطو متوجهاً لمباشرة عمله بهمة الرجال وعزم المخلصين، رغم ما يعتصره من حزن مرير كلما تذكر غضب والدته عليه حتى يجد الفرصة السانحة المناسبة لزيارتها وتقديم ما باستطاعته لها حتى يجعلها ترضى عنه فهو لا يحتمل مقتها عليه، ولكن هل ستقبل الأم اعتذاره وزواجه دون علمها ومن غير بنات قريته؟ ذلك ما يزال في علم الغيب، وتدريجياً عاد شكيل إلى ممارسة أنشطته السابقة، متنقلاً على مركبة زوجته لحين إسعاف الظروف له باقتنائه مركبة لنفسه، فرغم عملهما معاً إلا أن الظروف لا تمكنهما من اقتناء ما توده النفس وتهواه، وبسبب تكالب المتاعب عليه فقد طال هذه المرة غيابه عن القرية، بينما في القرية عزَت الأم ذلك إلى خلافها معه في آخر زيارة لها وذلك بسبب زواجه من جهينة دون علمها وعدم رضاها ليزيد انقطاعه عنها من حدة غضبها عليه، غير مدركة للظروف التي مر بها والتي ما يزال يكابد ويكافح ألمها، محاولاً تجاوز ونسيان تلكم المحنة الشاقة من حياته وهو يتوق شوقاً للقاء والدته والعمل على رضاها، فهو لم ينسَ قطّ حق الوالدين وحرمة عقوقهما والتنكر لحقوقهما، فكيف له أن ينسى وهو قد تربى في كنف أمه التي كانت له الأم والأب وكافة الأهل وهي التي آثرته على نفسها ونبذت خصاصتها جانباً لأجله هو فقط حتى مضى بها العمر وصارت من قواعد النساء وهو يدرك ذلك تماماً؟
وبذلك لم يحتمل البقاء في العاصمة طوال المدة التي مضت دون زيارته للقرية، فغادر في أقرب إجازة أسبوعية بواسطة سيارة أجرة، فهو لم يقتني سيارة بعد عوضاً عن التي خسرها في الحادث، ولا يمكنه أن يترك جهينة دون وسيلة تنقل رغم محاولاتها معه لأخذها بدلاً من إرهاق نفسه بالسفر عبر سيارات الأجرة، لكنه آثر زوجته على نفسه واستقل سيارة أجرة، ولحظه الحسن فقد وصل مركز التجمع في الوقت المعتاد حيث سيارة الجيب وسائقها بانتظار المسافرين، لكن وصوله للقرية كان متأخراً نتيجة أضرار الطرق التي تأثرت بجريان السيول جراء الأمطار الغزيرة التي شهدتها المنطقة مؤخراً، ورغم ذلك وجد والدته لم تَنَم بعد حيث وجدها وغضبها عليه ما يزال بادٍ على محيّاها فهي لم ترضَ عنه بل نعتته بالعاق والجاحد واتهمته بأنه أسير زوجته بنت العاصمة، وتحدثت كثيراً عن امتعاضها من تصرفاته وأفعاله التي لم تتوقعها منه يوماً كما قالت، كل ذلك وشكيل جالس قبالتها مطأطئاً رأسه لا ينبس ببنت شفة ليس خوفاً منها، بل احتراماً وإجلالاً وتقديراً لهذه الأم التي اغترب عنها والتي يكنّ لها كل مودة واعتراف بالجميل، وحين فرغت من حديثها اختتمت قولها له بأن الكلام معه لا يجدي نفعاً طالما هو منقاد لبنت العاصمة وأسيراً لها وأن لا فائدة ترتجى منه آمرةً إياه بذهابه للنوم، وبينما هي تهمّ بمغادرة الموضع طلباً للمبيت، سمعتْ نداءه لها بصوت أحسّت أن فيه الشيء الكثير من الحرقة والألم والإذلال والإنكسار، وبحدسها كامرأة وأمّ، شعرت بشيء من الوجل يسري في وصالها وقشعريرة حركت شعيرات جسدها النحيل، فالتفتت إليه لتجده واقفاً يرجوها المكوث ليتحدث إليها لبعض الوقت فازدادت وجلاً وتسمرت في مكانها بينما هو كان يقف ليخاطب التي لا يجوز حسب ما يعلمه عن قدر الأم إلا أن يجلّ لها كل إجلال وتقدير، فتقدم نحوها ورجاها أن تجلس حتى تسمع منه ما سيقوله ومؤكداً لها بأنه سيكون رهن إشارتها إن هي لم يُرضها ويقنعها ما ستسمعه منه، وأنه سيقبل منها الزجر والتأنيب وحتى إن هي أدبته ضرباً إن كان ذلك يشفي غليلها منه لكنه لا يحتمل غضبها عليه، وعليها أن تسمعه أولاً ولها القرار بعد ذلك، هكذا طلب إليها، فقبلت دعوته ولو على مضض وجلست لتسمع ما لديه ويديه تحتضنان إحدى يدي والدته. بيّن لها شكيل سبب سكوته حين كانت تتحدث إليه، وأنه لم يشأ مقاطعتها حتى تفرغ ما في صدرها ضده معلناً لها أن ذلك حقها عليه وواجب محتم وملزم به تجاهها يجب أن لا ينكره، مقدماً لها اعتذاره عن الأيام التي غاب فيها عنها والتي استمرت لما يزيد على الستة أشهر متصلة، واعداً إياها أن قادم الأيام ستكون أفضل حالاً وأقلّ انقطاعاً عنها بإذن الواحد الأحد، ثم أعلمها أنه حين غادر القرية المرة الماضية وهي في أوج غضبها عليه عاقبه الله شر عقاب، وأوضح لها كيف أنه تعرض لحادث سير وقوّة الإصابات التي لحقت به والمدة التي قضاها في العلاج بين المستشفى والبيت وخسارته لمركبته، وأنه لام نفسه لما سبّبه لها من نكد وحنق وغصة ألم وافتقاده في الوقت ذاته لها ولحنانها وعطفها عليه، وكيف أنه فضّل إخفاء ذلك عنها حتى يجنبها هلعها عليه مفضلاً إرجاء علمها بما أصابه حتى حضوره إليها وإخبارها بذلك بنفسه، موضحاً لها أن جهينة زوجته لم تقصر معه في شيء طوال فترة محنته مبيّناً لها صفاتها وخصالها الحميدة، وأنه كان يعتزم إحضارها معه لتراها موضحاً لها أن الحائل من مجيئها معه هو صعوبة الوصول إلى القرية راهناً، وأنه لا يشيد بخصالها هذه بحكم أنها زوجته وكي تقبل هي بها كزوج له وإنما ذلك ما لمسه منها، داعياً إياها الجلوس معها متى ما واتت الفرصة ثم إبداء رأيها فيها والذي سيعتمده هو بدوره كقرار نهائي منها وغير قابل لمناقشتها فيه، وما إن شاهدت آثار الجروح فيه الناتجة عن الحادث إلا ونسيت كل ما اعتبرته أنها منغصات منه لها وأخذت تحتضنه وتقبّله وحال لسانها يقول يا ليت أني رضيت عنك يوم أن غادرت عني هذه القرية، وأخذ كل منهما يبكي في حضن الآخر وكل منهما يقدم أسفه واعتذاره لما آلت إليه الأمور، ولم ينهيا جلستهما إلا وهما في حال صلح ونسيان لما حدث وقد باركت الأم زواج ابنها من جهينة ورغبتها بلقياها والجلوس معها، وبنهار اليوم التالي تناول شكيل غداءه مع والدته والبشر بادٍ على وجه كل منهما، وغادر القرية مودعاً الأم على أمل عودته إليها قريباً، لكن متى سيعود شكيل؟ وهل سيفي بوعده بإحضار زوجته معه؟ ولو حضرت هل ستجيد طريقة التعامل مع هذه المرأة الريفية وهي إبنة العاصمة؟
سنعرف ذلك في الجزء المقبل بإذن الله تعالى.