فلنهاجر معًا…
خلفان بن ناصر الرواحي
يطلق مصطلح الهجرة عمومًا بتعريفه الشائع كما هو معروف عند الكثيرين من عامة البشر، أن الهجرة تعني مرحلة الانتقال من مكان إلى آخر لسبب معين يستدعي الهجرة، وكذلك يراد به معان كثيرة، منها الهجرة من مكة إلى المدينة المنورة، والتي انتهت بفتح مكة، و منها هجرة المسلم من مكان إلى آخر؛ حفاظًا على إيمانه ودينه، أو من بلد إلى آخر؛ نتيجة الحروب أو الكوارث أو القحط الذي يصيب بعض المناطق من العالم، ويؤدي إلى المجاعة وتفشي الأمراض أو الفقر، وقد تكون الهجرة مرتبطة بغرض شخصي يتعلق بالدراسة أو الميول الشخصي لأمر معين، أو بغية العمل أو تحسين وضعه المادي والاجتماعي، وتسمى هذه الهجرة بالهجرة الحسيّة، كما جاء ذكرها في القرآن الكريم، كترك الإنسان دياره والبلاد التي يكون فيها مُستضعفاً، فقد جاء في القرآن الكريم قول الملائكة وهي تُعاتب الشخص الذي لا يُهاجر وهو مُستضعفٌ مع أنه قادرٌ على ذلك، فقال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾. [النساء:97].
إلا أنَّ هناك مفهومًا آخر لمعنى الهجرة يحمل في طياته معانيَ تربوية عظيمة بمفهومها المعنوي، تتعلق بالجانب السلوكي والتربوي لبني البشر، وتعدُّ مرحلة انتقال من حال إلى حال، وتشمل الجانب السلبي والجانب الإيجابي، ونحن لسنا بصدد الحديث هنا عن الجانب السلبي منها، وإنما سوف نركز على الجانب الأشمل والأعم المتعلق بالرقي والسمو بالنفس البشرية، والترفع عن سفاسف الأمور، لبلوغ غايات الارتقاء وهجر الحال الأدنى إلى الحال الأكمل والأجمل لإسعاد أنفسنا وغيرنا، ومرضاة لخالقنا ورازقنا والمنعم علينا بنعمه التي لا تعد ولا تحصى. وهذا الاشتقاق أتينا به من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وتسمى بالهجرة المعنويّة؛ فهي كالهجرة لله والرسول، مثل هجرة المُسلمين إلى الحبشة، وتُعدّ هجرةً حسّيّة ومعنويّة في نفس الوقت، ومنها أيضًا هجر المحرمات والمعاصي، يقول تعالى في كتابه العزيز:﴿وَإِذا رَأَيتَ الَّذينَ يَخوضونَ في آياتِنا فَأَعرِض عَنهُم حَتّى يَخوضوا في حَديثٍ غَيرِهِ وَإِمّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيطانُ فَلا تَقعُد بَعدَ الذِّكرى مَعَ القَومِ الظّالِمينَ﴾. [الأنعام: 68].
كما وجاء في السنة النبوية في الحديث عن عبد الله بن عمرو قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:«الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ». رواه البخاري ومسلم.
والحديث كما هو واضح يوجهنا ويرشدنا إلى الكف عن أذية الناس باللسان واليد، فلا يؤذي المسلم أحدًا من الناس بقول ولا بفعل، وجاءت خصوصية اليد بالذكر؛ لأن معظم الأفعال بها. كما خص ذكر اللسان بالذكر؛ لأنه مصدر الكلام، وكف أذى اللسان يكون بالامتناع عن الكلام في أعراضهم، فلا يغتاب أحدًا ولا يسعى بين الناس بالنميمة، وكذا يتعين على المسلم ألا يؤذي الناس بأفعاله، كضرب الناس وإيذائهم في أبدانهم وسلب أموالهم، ولا يرمي أحدًا ببهتان، أو يتهمه بفرية وهو بريء منها كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام، ويكون بتنزيه لسانه عن السب والشتم والقول الفاحش والتحقير والاستهزاء والسخرية، وغير ذلك من أنواع الأذى التي تصدر من هذه الجارحة الخطرة، فهي أكثر ما يكب الناس على وجوههم في النار والعياذ بالله، كما ورد ذلك عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدْنِي مِنْ النَّارِ، قَالَ:”لَقَدْ سَأَلْت عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أَدُلُّك عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، ثُمَّ تَلَا: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة:16] حَتَّى بَلَغَ ﴿يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة:17]، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِرَأْسِ الْأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذُرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ، وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ فقُلْت: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وَقَالَ: كُفَّ عَلَيْك هَذَا. قُلْت: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْك أُمُّك وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ -أَوْ قَالَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ- إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟!”. – رواه الترمذي (2616).
لهذا علينا أن نهاجر معًا، ويكون كل واحد منا همه الله والتقرب إليه، وأن نرتقي بأرواحنا لتسمو وتتميز بالعقلية الفكرية المتشبعة بروحانيات العبادات الحسية والمعنوية؛ لنرقى بأنفسنا لاستيعاب المقاصد الشرعية وإدراكها التي ينبغي أن نلمسها ويلمسها غيرنا في تعاملنا وسلوكنا، ونتميز عن غيرنا بتلك الخصال لنرفع راية المجد بسعة الأفق لعقولنا التي باتت تغزوها الأفكار الهدامة التي أبعدتنا عن منهج الله القويم، وأنزلتنا منزلة الذلة والهوان بين الأمم، ولنتصالح مع أنفسنا ونراجع حالنا قبل أن ننطلق بمكوك الهجرة المعنوية، فلسنا بحاجة للهجرة الحسيّة أكثر من الهجرة المعنوية؛ لأننا ما زلنا نعيش في زمن يتطلب منا الصبر على الشدائد وإصلاح النفس، والحال واحد في جميع بقاع الأرض من حيث الواقع المر الذي نعيشه من حيث الضعف والهوان، فلننقِّ قلوبنا من أدران الحقد والمشاحنات والتباغض والتناحر والقطيعة للرحم والجيران والأهلين والأحباب، ولنعبد الله على يقين، ونصلح ذات بيننا، فلن تتحقق تلك الهجرة المتجددة التي نسعى إليها إلا بخصلتين عظيمتين وهما: هجرة مفاصلة وتجنب، والمقصود بها بأن نهاجر ما نهى الله عنه ورسوله، كهجر الذنوب والمعاصي والبعد عن أماكن المعصية ومفارقة العصاة، والتقرب إلى فعل الخيرات وترك المنكرات، وذلك مصداقًا لقوله تعالى :﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ ﴾. [النساء: 14]، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْهِجْرَةِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: ” أَنْ تَهْجُرَ مَا كَرِهَ رَبُّكَ عَزَّ وَجَلَّ “. مسند النسائي (4165).