البراءة في العناية
غزلان البلوشية
لكلّ ممرّض لم يداوم في وحدة العناية المركّزة أقول له: لقد فاتك الكثير من الخير.
قد يتعجب بعضنا مما أقول، ولكن الواقع يثبت أن التمريض عالَم آخَر، وخاصة وجود الأطفال المرضى. شعورٌ غريب، خليط من الأحاسيس، أن تكون لك القدرة السحرية على علاجهم، وأن يخرجوا من هناك وهم بصحة وعافية مع والديهم، فعلاً، إنه شعور كل ممرض وممرضة، عندما أرى طفلاً منوّماً مخدّراً وتحت جهاز التنفس، أشعر بألم في قلبي وكأن طعنة سكين أصابتني في صدري، وأنزف حزناً عليهم، وفي ذات الوقت أرى نظرات الأم والأب تجاه فلذات أكبادهم وهم بهذا المنظر وما مصيرهم؟
اليوم سأتحدث عن الأطفال في وحدة العناية وعلاقتي معهم ومع أمهاتهم وآبائهم.
لحظة دخول الطفل إلى وحدة العناية، ستسمع صراخ الأم الذي يكسر كل زجاج، وهي خائفة على ولدها، شاهدتُ هذه المواقف وأصبحتْ مكررة أمامي، والذي يدفعني إلى عدم الوقوف صامتة هو دوري كأمّ وكممرضة في الوقت نفسه، لأسحب نفسي تجاه أمٍّ أو أب وأنصحه بالدعاء، وأن ما حصل إنما هو بلاء من الله، فعليكم الدعاء والتضرع له سبحانه واللجوء إليه تعالى.
هذا هو دوري معهم، ولكن برغم أني لست مسؤولة أو مشرفة على هؤلاء الأطفال فإن الشعور تجاههم شعور يدفعني إلى أن أدعو لهم أيضاً بالشفاء، ولست وحدي في هذا الشعور، بل إني لاحظتُ كل ممرضة مسؤولة عن الأطفال في وحدة العناية غايتها الاهتمام بهم ومشاركة ذويهم ودعمهم والوقوف معهم. عندما أقف بجانب طفل في هذه الحالة، وملامحه التي تغرق بالبراءة والسماحة وعلامات الطفولة التي تجعل كل من يراه يضعف أمامه، وأن مكانه ليس هنا بل مكانه هناك في البيت مع أمه يلعب معها تارةً، ويبكي لينام بين أحضانها تارة أخرى، كانت تدور كل هذا الأفكار في مخيّلتي، أتخيلهم بعيدين عن وحدة العناية؛ مما يجعلني أدعو لهم في صلواتي وأوقات استراحتي أن يرجعوا إلى حياتهم الطبيعة.
في إحدى المشفيات عندما رأيت أمّاً تصرخ بأعلى صوتها وكأنها تختنق وتحترق من الداخل؛ لأن ابنها دخل في وحدة العناية، لم تتمالك نفسها؛ لأن ابنها ساءت حالته الصحية؛ مما دفع أطباء الأطفال أن يدخلوه في الوحدة المركزة، عندما رأى الأب أن الأم تزعج المرضى، أجبرها على الخروج من هناك، وتكلمت معها طبيبة الأطفال لكي تهدأ، ولكن من دون جدوى؛ مما جعلني أخرج إليها وأحضرت معي كرسياً لتجلس عليه، ولأستطيع التحدث معها.
كانت حالتها يُرثى لها، ولكنها سمعت لنصائحي بأن الله لا يطلب منها البكاء بل الدعاء، وأن الله يستجيب لمن يدعو له وهو قريب من العباد، في تلك اللحظة، وجدتها صمتت واستغفرت وهدأت، لأكمل حديثي معها، وأن تقرأ سورتَي يس والصافات، وأن تمسح على رأس طفلها، وأن تقرأ عليه السور.
وبالفعل كل أمّ تدخل مع طفلها المريض إلى وحدة العناية المركزة فإني أنصحها نفس النصيحة.
الأم التي كانت تصرخ بسبب حالة طفلها أصبحت تكرر في زيارتها لطفلها قراءة القرآن الكريم، وكانت أكثر هدوءًا، إلى أن قرر طبيب الأطفال إزالة أنبوب التنفس؛ لأن الطفل صار يستطيع التنفس طبيعياً. ماذا أقول عن الفرحة التي رأيتها في عيون الأم؟ والسعادة الرائعة التي شعرتُ بها ولامست قلبي، كم هو جميل النظر إليها وإلى طفلها وهي تمسح على رأسه، وعندما اقتربت منها كانت نظرة الطفل نظرة ذهول وتعجّب، لم يستطع أن يتحدث ليعبّر عن شعوره ولكن شعرتُ به أنه في حالة يريد أن يرتاح وينام ليستعيد نشاطه ويلعب كأيّ طفل طبيعي، الأطفال عندما يغادورن الوحدة المركزة؛ فإننا نكون في قمة السعادة. التصفيق والفرحة والحماس لخروجه سليماً معافى، وهو أيضاً يبادلنا الوداع بابتسامة جميلة بريئة سعيدة.
إنها لحظة أتمناها لكل طفل في وحدة العناية المركّزة، أن يخرج وهو بحالة صحية جيدة.
أتذكر طفلاً مريضاً كان لا يبتسم أبداً بسبب سوء حالته الصحية، ولا يتكلم، وينظر نظرة عصبية، رغم أن أمه في منتهى اللطف والطِّيب، وابتسامتها لا تفارق محيّاها، كنت أحاول أن أجعله يبتسم أو أن يشاركني اللعبة التي يلعبها في الهاتف، لكن نظراته لي كأنه يقول: ماذا تريدين مني؟
ولكني كنت مصرّة بأن يشاركني لحظاته، واليوم قبل أن يُنقل إلى قسم الأطفال، كنت ابتسم وأضحك معه ليفاجأني بابتسامته لي، كيف أصف سعادتي به؟ لم يكن يبتسم لأيّ ممرضة مسؤولة عنه أبداً، وهذه تُعدّ أول ابتسامة تُرسم في وجهه لي، وخرج من وحدة العناية لأتذكره دائماً.
علمتُ أن وحدة العناية وحدها عالم أخَر يتنقّل بين المرضى الصغار والكبار، لتعلم أنك في نعمة كبيرة، فاشكر ربك عليها وتحسس بها، والرائع في الموضوع هو انتقالي – بوصفي ممرضة- إلى وحدة العناية المركزة؛ حيث كانت فرصة كبيرة لي، خاصة أن الأمهات يكررن قولهنّ لي:
أنتِ تبعثين فينا الراحة والتفاؤل ونحن في أشدّ المحن.
ذلك لأني كنت أمرّ بجانبهنّ وأتحدث إليهنّ وأبتسم لهنّ، وأشجعهنّ على الصبر والتفاؤل، والإيمان بأن الله تعالى سيكون معهنّ في هذه المحنة.