2024
Adsense
مقالات صحفية

المواطنة السياسية: طموحٌ تربويٌّ وخشيةٌ سياسيّة

سلسلة مقالات في المواطنة (1)

د. سلطان بن خميس الخروصي

دكتوراه في علوم التربية (المواطنة)
كاتب ومدوِّن، باحث اجتماعي وتربوي
sultankamis@gmail.com

تُعدُّ المواطنة السياسية والتربية عليها من أصعب المهمَّات وأعسرها التي واجهت الأمم قديماً وحديثاً؛ نظراً لصعوبة تحديد مفهومها الدقيق من جهة، ولآلية ممارستها على الواقع من جهة أخرى؛ فالمواطن الصالح يكشف الوضع الحقيقي لأيّ أمّة وحضارة، وقدرتها على صمود مشروعها الحضاري، وقوة قيَمها وفلسفتها اجتماعياً وتربوياً وسياسياً؛ لذا أولتِ الْحضارات القديمة السابقة اهتماماً كبيراً بهذا المجال، فاهتمّ الفراعنة بنشر قيَم الطاعة، والولاء، والإخلاص للملك والوطن، ونادى فلاسفة الإغريق ومفكروهم بنشر القيَم الفاضلة بين المواطنين؛ ليُمايزوا بين الخير والشر، والحقّ والباطل، وتهيئة مواطنين نافعين مخلصين لأثينا التي كانت ترمز للحرية والعدالة، فنجد أن أعظم فلاسفتها “أرسطو” يرى أن المواطنين هم أساس نجاح أمن نسيج الدولة الاجتماعي واستقراره وتلاحمه، والسياسي، ونموّها الاقتصادي؛ مما يستوجب على النظام الحاكم تحقيق العدل، والمساواة، وإشراكهم في الحياة السياسية، والتشريعية، والاجتماعية، والاقتصادية.

واستندت الفلسفة السياسية للحضارة الرومانية على الحماية الشخصية للمواطنين، والحفاظ على ممتلكاتهم وحقوقهم القانونية، وتجنيبهم المحاكم التعسفيَّة، والتعذيب، والإهانة، والعنف الديني والسياسي، وسَعت الحضارة الصينية القديمة إلى تعليم أفرادها القيَم الفاضلة النبيلة؛ للدفاع عن كرامة الأمّة الصينية وحماية الحقوق الشخصية.

لم يستمرّ هذا البناء التراتبي لمفهوم المواطَنة السياسية وقيمها وممارساتها في أثينا ولاحقاً في روما طويلاً؛ حيث فقدَ المواطنون حقوقهم، وكُلِّفوا بالواجبات والالتزامات والضرائب تجاه الدولة، لتشهد أوروبا حتى نهايات القرن السابع عشر انحساراً كبيراً في قيمة المواطن وحقوقه، واضمحلال الديمقراطية، وانعدام المساواة والعدالة الاجتماعية؛ الشيء الذي خلق غضباً شعبياً وسُخطاً كبيرين بين الشعوب، وكانت نتيجة تراكم احتقان الطبقة الكادحة وغضبها من العُمَّال والفلاَّحين والفقراء والطبقات المتوسطة وما دونها تجاه الأرستقراطيين والبرجوازيين والنُبلاء، والذي خلق حِراكاً مجتمعياً تمثَّل في الثورات الشعبية والاعتصامات والمظاهرات، التي دفعت الطبقة السياسية إلى التفكير في منح القيمة الحقيقية للمواطنة، وخلق التوازن بين الحقوق والواجبات.

إن لمعرفة قيم المواطنة السياسية وممارستها أهمية كبيرة على مستوى الفرد والجماعة؛ فذلك يدفع الفرد للتعامل مع الآخرين وفق نسق ونظام قِيَمِيّ يكون بمثابة الموجِّه لسلوكه، ونشاطه، وتصرفاته، وانفعالاته، كما أن أيَّ تشكيل مجتمعي هو بحاجة لنسق قِيَمِيّ، تتضح من خلاله أهدافهم ومُثلهم العُليا، لتحفظ حياتهم الكريمة، وتُحدِّد أنشطتهم، وطبيعة علاقاتهم الإنسانية.

ومن أولويات التربية وأهدافها الرئيسة هو غرس تلك القيم وتعزيزها في نفوس المتعلمين عبر المنظومة التعليمية. وتشكل المناهج الدراسية أحد الأعمدة الرئيسة في المنظومة التعليمية؛ حيث تسهم بصورة كبيرة في غرس تلك القيم وتعزيزها عند الطلبة، فاهتمت العديد من دول العالم بإعادة هندسة المناهج وتصميمها بما يتوافق واكتساب متعلميها؛ حيث عملت المملكة المتحدة منذ العام (1998) على تعزيز تضمين محتوى المناهج الدراسية بشكل عام، ومناهج الدراسات الاجتماعية والتربية الوطنية بشكل خاص بموضوعات تتصل بالمواطنة السياسية، وعدّت الحكومة المركزية في الولايات المتحدة الأمريكية أن قيم المواطنة السياسية هدف قومي سامٍ، فوضعت استراتيجية وطنية لآليات إكسابها عند المتعلمين، وسعت الحكومة الكندية إلى وضع استراتيجية وطنية تُعزَّز من مفردات المواطنة السياسية ومفاهيمها وقيمها، وتغيير مفهومها النمطي المحصور بين القوانين والدستور إلى المشاركة المجتمعية والممارسة السياسية في خدمة الدولة ومؤسسات المجتمع المدني، ووجَّهت الحكومة السويسرية المؤسسات التربوية والتعليمية إلى الاهتمام بتربية المواطنة السياسية في المرحلة الثانوية وتعزيز قيم التسامح، والاحترام، ونبذ العنف والتشدد، واستيعاب مبادئ الديمقراطية، والحرية، والمسؤولية العالمية، والعمل التطوعي، والتعاون مع المنظَّمات الوطنية والعالمية، كما أنه وبعد الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) توجَّهت الحكومة اليابانية إلى تحويل الفكر السياسي والمدني لدى مواطنيها من النزعة العسكرية إلى النزعة المدنيَّة الديمقراطية والإنتاج، فأعادت هيكلة فلسفتها التربوية وتصميمها وأهدافها لخلق مسارات التواصل السليم مع المجتمع الدولي، وتعزيز حبّ العمل، والإنتاج، والجودة، والإخلاص في سبيل رفع مكانة الأمة، وخلق ثقافة مكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة والمسؤولية
.
وعلى الرغم من أن العديد من الدراسات العلمية البحثية تُشير إلى أهمية الدور التربوي الذي يمكن أن تحققه المناهج الدراسية بشكل عام في غرس قيم المواطنة السياسية وتعزيزها عند المتعلمين فإن أغلبها تؤكد على أن مناهج الدراسات الاجتماعية هي الأنسب لتحمُّل هذه المسؤولية؛ لما تتميز به عن نظيراتها في القدرة على احتواء أغلب تلك القيم وترجمتها واقعاً وممارسةً.

فمناهج التاريخ تغرس في نفوس الطلبة الاعتزاز والفخر بالإنجازات الحضارية التي قدَّمها السابقون في سبيل الدفاع عن الأمة، ومقدَّسات الوطن، وكرامته، والسعي نحو الحياة الكريمة، وتُساعد مناهج الجغرافيا على استيعاب خصائص الوطن، وما يحتويه من إمكانيات طبيعية وديموغرافية، وتَتَبُّعٍ لمسيرة حياة الإنسان فيه منذ القِدم، وعلاقته المتبادلة مع البيئة، والمشاكل التي تعاني منها للسعي في إيجاد الحلول.

لقد أوصت العديد من المؤتمرات، والندوات، والملتقيات العلمية بانتقاء القيم السياسية المراد تضمينها في محتوى مناهج الدراسات الاجتماعية، واختيارها بعناية ودقّة لتُبرِزها بصورة صحيحة ومنطقية تساعد الطلبة على استيعابها وتعلُّمها وممارستها؛ فيتربَّون على الفضيلة ويمقتون الرذيلة، ويتوافقون مع فلسفة مجتمعهم وقيمه المنبثقة من ثقافة السلام، والمحبة، والبناء، واحترام القانون، والدفاع عن الوطن، والاعتزاز بالمنجزات الوطنية، وتهيئة المواطن الصالح؛ حيث أصبحت الحاجة ماسّة لتكثيف البحوث المتصلة بقيم المواطنة السياسية في مناهج الدراسات الاجتماعية وفحصها وتحليلها ومعرفة مدى وعي المعلمين بها وممارستهم لها أمام ما نشهده من إفرازات العولمة؛ للوقوف على واقع مستوى تضمينها وانسجامها كمَّاً وكيفاً مع ثوابت الأمة في ظل المتغيرات الوطنية والعالمية، وقياس مدى قدرتها على القيام برسالتها المنوطة بها، وعلى رأسها بناء المواطن الصالح المسؤول، وتتمثل آلية التأكد والتحقق من ذلك من خلال تحليل محتوى المنهج الدراسي للكشف عن الموضوعات ذات الصلة، ورصد آثارها وتبعاتها، ومحاولة السعي لتصحيح المسار إن تبين ثمة نقص أو قصور في أحد أركان العملية التربوية.

وبناءً على ما تقدم من سرد تفصيلي لتأصيل هذه السلسلة من المقالات المتخصصة في علوم المواطنة؛ فإننا بحاجة إلى إسقاط ما تقدم على واقعنا العُماني لنستقرئ تلك المؤشرات العلمية في مقالات قادمة بعون الله.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights