سوق الغشب “شرجة الغشب”
صالح بن عوض الحمحمي
ثلاث قُرىً تركت أثراً جميلاً ورائعاً في طفولتي، الطيخة، ووبل، والغشب، ذلك بطبيعة الحال إلى جانب قريتي العزيزة “المزاحيط” الساكنة في سويداء القلب، والتي عشت فيها أجمل سنوات العمر.
في مكان يقع بين قريتي وبل، والطيخة يقال له “أرض الوادي” أو “المرضية” عشت هناك طفولتي المبكرة،كان ذلك في بداية سبعينيات القرن الماضي، الحياة وقتها كانت بسيطة، ولم نكن بعد نعرف “المدنية الحديثة” التي طمرتنا لاحقاً “بأكوام من الإسمنت، وأطنان الحديد” إلى جانب رائحة “الأصباغ” الكريهة.
كنا نسكن العرشان، والخيام المبنية من أشجار النخيل، كان والدي طيّب الله ثراه يأخذني لأعيش هناك مع جدتي رحمها الله، أثناء ذهابه للعمل بعيداً عنا، ليوفر لنا لقمة العيش الكريمة في ذلك الزمن الصعب، وكان رحمه الله يهدف من ذلك إلى أمرين إثنين:
الأول: لأكون قريباً من مدرسة تعليم القرآن الكريم في قرية الطيخة، التي كان يدرّس فيها المغفور له بإذن الله تعالى (ناصر بن راشد الحارثي).
والأمر الثاني: لأقوم بمساعدة جدتي في بعض الأعمال أثناء غيابه عنا.
من بين ماكانت تطلبه مني جدتي في ذلك الوقت، الذهاب إلى “شرجة الغشب” لشراء بعض الحاجيات الغذائية الضرورية، من سمك، وبصل، وفجل، وثوم، وغيرها من الأشياء. كنت أتوجه إلى ذلك المكان “شرجة الغشب” سيراً على الأقدام عند الظهر، سالكاً طريقاً تحيط به أشجار النخيل، والليمون، والأمبا، من جانبيه، فارشةً ظلالها على طول امتداده وكأنها سحابة تغطّي المكان، وأنا أمشي في ذلك الطريق كنت أشعر بشيء من السعادة تغمرني، ولم أكن أشعر بطول الطريق، أو بشيء من التعب، عندما أصل إلى هناك أتوجّه مباشرة الى أحد بائعي الأسماك الذي يأخذ مكانه تحت شجرة “الزامة” والتي خصص بيع الأسماك تحتها، في حين جارتها الأخرى شجرة “الصبارة” القريبة منها يباع تحتها أعلاف الحيوانات، وغيرها من السلع والبضائع المختلفة.
يسألني بائع السمك وهو يقلب سكينه “يسنها” على “حصاة” ملساء قائلاً:
“مو تريد من السمك ياولدي؟ شيء جرجور ،طباق، سهوة، كنعد، جيذر”، وبعد “عومة “، أشير بيدي إلى سمكة ” الجيذر ” الموجودة أمامه قائلاً:
أريد من هذه، يتناول السمكة ثم بسكينه الحاد يقطع جزءً منها قطعاً صغيرة ليضعها في الميزان، ينظر إليّ مبتسماً وهو يقول: ” وهذي” حزتين ” زيادة من عندي حالك، بعدها يتناول “خوصتي” نخيل ليربط بها قطع السمك بطريقة احترافية تثير الإعجاب، فعملية الربط تلك تجعل من قطع السمك متماسكة بحيث لا تنفرط أثناء الحمل، مع وجود فتحة دائرية في تلك “الخوصة” لتسهيل عملية الإمساك بها، يناولني السمك وهو يقول: ” هذا هو سمكك يا ولدي مع السلامة، تبصر على نفسك في الدرب وأنت راجع إلى حيانك “.
تسعدني تلك الكلمات البسيطة التي يسمعني إياها، بدوري أودعه أنا الآخر بعد أن أعطيه ثمن السمك الذي ابتاعني إياه، بعدها أتوجه لشراء بقية الأغراض التي أوصتني بها جدتي.
سوق الغشب الذي تعارف الناس على تسميته: “بشرجة الغشب” كان سوقاً متكاملاً، ففيه كنت تجد كل أنواع السلع والبضائع تباع فيه، قوافل من “الدواب ” تتوافد إلى هناك منذ الصباح الباكر من القرى المجاورة، وهي تحمل على ظهورها “عكمات ” القت، والزروع، وحتى الحطب، إلى جانب الأسماك بطبيعة الحال.
الناس كانت تتوافد إلى ذلك المكان جماعات من كل حدب وصوب بين بائع، وشارٍ، ومتفرج.
تلك المساحة المحدودة التي يقف عليها سوق الغشب كانت تعجّ بكثير من الناس، لدرجة أنهم كانوا يتزاحمون بالأكتاف.
لقد شكل سوق الغشب “شرجة الغشب” في مراحل تاريخية متعاقبة مصدر رزق لشريحة كبيرة من الناس ليس فقط على مستوى سكان قرية الغشب وحدها، بل وعلى مستوى عدد من القرى المجاورة لها، وحتى أماكن بعيدة، وهذا ما يؤكده بعض من كبار السن الذين عايشوا فترة ذلك الازدهار التجاري لتلك السوق.
وإلى جانب تلك الأهمية الاقتصادية الكبيرة التي شكّلها “سوق الغشب ” في الماضي، فهو كذلك قدّم أدواراً اجتماعية متعددة من بينها:
تقوية الروابط الاجتماعية بين الناس وذلك من خلال اللقاءات التي كانت تتم هناك، إلى جانب ممارسة بعض الاحتفالات في عدد من المناسبات. كما وأن عملية “قعد” مياة الأفلاج كانت تتم في نفس المكان.
لقد كان لموقع قرية الغشب الاستراتيجي المتميز، إلى جانب امتداد مساحتها الجغرافية، ما أهّلها لتلعب مثل ذلك الدور الاقتصادي المهم، فهي تتحكم في التقاء عدد من الطرق شرقاًوغرباً.
منذ أيام قليلة تحرك في داخلي شوق وحنين إلى ذلك المكان، وعادت الذكريات سنوات إلى الوراء فقررت الذهاب إلى هناك وبنفس الطريقة التي كنت أذهب بها وأنا صغير.
تركتُ سيارتي عند بدايات الطريق التي كنت أسلكها، لكن كم هي تلك المفاجأة التي صدمت بها، إذ لم أكد أقطع بعض الخطوات حتى وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام أبواب بيوت تقطع عليّ الطريق لدرجة أني شعرت بشيء من الحرج والخجل أن يخرج أحد من سكانها ويراني أقف بالقرب من بيته، فعدت مسرعاً إلى الوراء نحو المكان الذي أوقفت فيه سيارتي.
الصدمة الكبرى بالنسبة لي تمثلت في اختفاء تلك الغابة الكثيفة من أشجار النخيل، والليمون، والأمبا التي كنت أعرفها، فكثير منها إمّا مات، أو اقتلع وأقيم مكانها بيوتاً من الإسمنت والحديد.
حدّثت نفسي قائلاً: ليس لديّ من وسيلة الآن إلا أن أسلك الطريق الذي تمر به المركبات.
دقائق وكنت هناك، ترجلت من السيارة، ثم أخذت أقلب ناظريّ في ذلك المكان، وقد بدى فيه كل شيء باكياً وحزيناً.
يبقى السؤال هنا: متى سيُعاد إلى مثل هذه الأسواق شيئاً من تاريخها، وألقها التي كانت عليه؟ ألا تمثّل مثل هذه الأسواق العريقة جزءً مهماً من تاريخ وحضارة وطن؟