التَّعايُش السِّلْمِيّ فِي النَّحوِ الْعَرَبِيّ (6) العطف
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
يُعد العطف أحد التوابع الأربعة التي تحدثنا عنها في مقال أسبق، وينقسم قسمين:
الأول: عطف النسق: وهو “تابع يتوسط بينه وبين متبوعه أحد حروف العطف”. (السامرائي: 2/ 305).
وحروف العطف كثيرة، منها:(الواو، الفاء، ثُمَّ، أو، حتى، أمْ، لكنْ، بلْ، لا).
ولهذه الحروف معانٍ ودلالات سياقية متنوعة، ولا يتسع المجال هنا لعرضها، وسنكتفي ببعض النماذج التي نذكرها لبيان التعايش السلمي في العطف بقسميه.
فعندما نقول: حضر عبد الله وعبد الرحمن، نلحظ أن هذه الجملة اشتملت على أجزاء عطف النسق الثلاثة، وهي المعطوف عليه في “عبد الله”، وحرف العطف في “الواو”، والمعطوف في “عبد الرحمن”، وإن كانت الواو تدل على جواز الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، فإن هناك علاقة تقدير بينهما تمثّلت في احترام الموقعية، فلا يسمح حرف العطف بتبادل أحدهما موقع الآخر، فالمعطوف عليه لا بد أن يسبق حرف العطف، وكذلك المعطوف يأتي متأخرا، وهذا الحرف يعد وسيطا مهمًّا من خلال دلالته في الجمع بينهما مع الاحتفاظ بالموقعية؛ ومن ثمَّ قوة في علاقة التعايش بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومن حروف عطف النسق استخدام الحرفين “لا” و”لكنْ” في سياقين مختلفين، ومن ذلك قولنا: صاحب الأخيار لا الأشرار، فقد أفادت “لا” في سياقها إثبات الحكم لما قبلها ونفيه عما بعدها، ودلالة فعل الأمر “صاحب” هدفها المعطوف عليه “الأخيار”؛ ولذا نشأت علاقة وطيدة بينهما كان فيها تعايش واضح المعنى والدلالة.
في حين نلحظ في قولنا: لا تصاحب الأشرار لكن الأخيار نوعا آخر من العلاقة بين الفعل والاسم المعطوف؛ حيث معنى “لكن” في سياقها الإضراب مثل “بل” تماما، وهو إثبات الحكم لما بعدها، ونفيه عما قبلها، ودلالة الفعل المنهي “لا تصاحب” هدفها المعطوف “الأخيار” الواقع بعد حرف العطف “لكنْ”.
وبين دلالة الأمر والنهي في السياقين السابقين نشأ تعايش بين الفعل والمعطوف عليه مرة مع “لا”، وبين الفعل والمعطوف مرة أخرى مع “لكنْ”، وهنا أثرت دلالة الأمر في الترابط النصي بين فعل الأمر والمعطوف عليه، ولما كان الفعل في سياق النهي؛ ترابَط النص أيضا بين الفعل والمعطوف من خلال دلالته، وكان التعايش في كلا السياقين واضحا وجليا.
الثاني: عطف البيان:”وهو تابع جامد يشبه الصفة في إيضاح متبوعه بنفسه، وعدم استقلاله”. (د. أمين السيد: 2/ 92).
ولعطف البيان صور متنوعة في الاستخدام، منها مجيء اللقب بعد الاسم، نحو: عمرُ الفاروقُ ثاني الخلفاء الراشدين، واللقب ورد في كلمة “الفاروق” التي جاءت لتبيّن مقصود الاسم، فالعلاقة بينهما علاقة انسجامية وتعاونية، ونشأ عن هذه العلاقة تعايش في إصرار عطف البيان على تحمل المسئولية تجاه الاسم قبله، فلم يستقل عنه، وإنما هو تابع له يحترمه ويقدره، ولسان حالهما يطرح سؤالا يكون جوابه الخبر المتمم معنى الجملة، فعندما نقول: منْ عمر؟ ومن الفاروق؟ يأتي الجواب: ثاني الخلفاء الراشدين.
ولقوة العلاقة بين عطف البيان والاسم قبله قيل: كل ما جاز أن يكون عطف بيان يمكن أن يكون بدلا مطابقا؛ ومن ثمَّ فدلالة عطف البيان أو البدل تؤكد أواصر الترابط والتعايش بينهما.
ومن صور عطف البيان مجيء الاسم بعد الكُنية، نحو: أكرمت أبا عبد الله محمدا، والكنية هنا” أبا عبد الله”، والاسم “محمدا” الذي يعرب عطف بيان أو بدلا، وتتجلّى علاقة التعايش في سماح الكُنية لعطف البيان أن يحل محلها، ويؤدي معناها في رضا واطمئنان وسماحة نفس، فعندما سمت العلاقات وقويت بين عطف البيان والكُنية؛ تلاشت الموقعية مع الاحتفاظ بحق كل منهما بمعناه ودلالته.
وما أجمل دلالة عطف النسق بحروفه ومعانيها ودلالاتها في المحافظة على التعايش بين المعطوف والمعطوف عليه من خلال الجمع بينهما مع “الواو”، أو الترتيب مع التعقيب مع “الفاء”، أو الترتيب مع التراخي مع “ثُمَّ” وغير ذلك من معاني باقي الحروف التي تؤدي دورا تناسقيا وانسجاميا بينهما!
وما أروع تلك العلاقة التبادلية مع عطف البيان وسياقاته التي أضفت معاني التعايش بوضوح من خلال تبادل الموقعية مع تقدير الآخر!
وما أحوجنا إلى تلك العلاقات النّصّية التي نشأت بناء على الترابط والانسجام!
وللتعايش بقية..