القروي والعاصمة.. (2-15)
خميس بن محسن البادي
تابعنا في الجزء الأول نية شكيل مغادرة قريته بعد استكماله مرحلة التعليم المتوفرة في قريته، وقد أصبح فتىً يافعاً، لنتابع قصته في هذا الجزء كما هو أدناه …
ورغم ذلك كانت عزيمة شكيل قوية وجادة نحو تنفيذ ما خطط له فهَمّ بمغادرة القرية هذه المرة، ولأيام لا يعلم عددها إلا الله، ثم مدى القوّة والعزيمة والإرادة التي ستجعل شكيل نفسه صامداً أمام ظروف أيام غربته عن قريته وصروفها؛ حيث قرر التوجه إلى العاصمة، فتزوّد بما تيسر له من لباس ووثائق ومال، ووادع والدته وأهل قريته وفتاته- سهيلة-، على أمل أن يعود إليهم في أقرب سانحة تسمح له بذلك، في حين لم يكن مسموح للفتاة أن تتعدى المرحلة الدراسية غير المتوفرة في القرية؛ حيث عليها بعد ذلك أن تقبع في منزل أهلها حتى زواجها، لما للفتاة من خروج عن المألوف إذا ما غادرت بيت أهلها إلى غير بيت زوجها خاصة لدى سكان مثل هذه القرى، ورافق شكيل من سبقوه في مغادرة القرية إلى حيث قرر ونوى، وبعد ساعات شاقة هي مدة رحلته التي امتدت من بعد صلاة الجمعة مروراً بمركز الولاية التي إحدى قراها قريته؛ حيث تبدأ المرحلة الثانية من المسير وصولاً للمنطقة الأخرى، والتي بدورها تعدُّ همزة الوصل بين العاصمة وبقية المناطق والقرى وقرية شكيل – مثال-، فهناك تتجمع مركبات (الجيب) التي تقل الركاب لمقاصد توجههم، فاستقل شكيل ورفاقه إحداها، وهي جيب (لندروفر) بريطانية الصنع ذات حوض خلفي مغطى بقماش سميك، وقد خصصها سائقها لنقل الركاب للتكسب عن طريقها بحمل البضائع ونقله عابري الطريق من المسافرين، وأخيراً وجد شكيل نفسه في قلب عاصمة الوطن بصخبها وزخمها ومدنيتها الحديثة، وإضاءة بعض طرقها الجميلة المسفلتة والمرصوف جوانبها بنوع جذاب من الطابوق الخرساني المطلي باللونين الأسود والأصفر، ورؤيته استمرار العمل في إقامة مشاريع تنموية أخرى تسير هنا وهناك بوتيرة متسارعة تعلوها الهمة والنشاط وعدم التخاذل والاتكالية، وتشجير بعض المساحات بأشجار الزينة التي لم يرَ شكيل مثلها منذ ولادته، ليفغر فاه مشدوهاً غير مصدقاً ما تراه عيناه مقارنة بالسنوات التي قضاها في قريته في مشاهدة الجبال شاهقة الإرتفاع والأودية على مختلف اتساعها وعمقها.
وكان شكيل يعلم وازداد علماً ويقيناً أن إجازة نهاية الأسبوع والحال كذلك ولمن يعمل في العاصمة خاصة، ومن هو من سكان القرى الجبلية البعيدة عن العاصمة كقريته هو لا تفيده في شيء البتة، فبعد عمل يوم الخميس يصل الواحد منهم للقرية بين صلاتي المغرب والعشاء، وأحياناً قد تمتد بهم الرحلة إلى ما بعد ذلك الوقت، على أن يعود أدراجه بعد صلاة الجمعة من اليوم التالي حتى يتمكن من أن يكون على رأس عمله في الوقت المحدد صباح اليوم الأول من الأسبوع الجديد، وهذا بحد ذاته مآل شاق ومتعب على شخص مثل شكيل بدأ لتوّه شق طريقه كرجل يعتمد على نفسه وبعيداً عمن كانوا سنده وعضده من أهل قريته.
وفي العاصمة أقام لفترة مع رفاقه ما لبث أن استقرت به الحال بعدها في غرفة بمرفقها في إحدى البنايات بالعاصمة بإيجار شهري يثقل كاهله إلى حدٍ ما لعدم وجود دخل لديه، لكنه اقترض بعض المال من أحد رفاق رحلته لـيُسيّر به أمره؛ وبذلك لم يكن أمامه سوى البحث عن وظيفة لتغطية مصاريف سكنه وإعاشته، فقدم أوراقه في عدد من الجهات أغلبها جهات حكومية؛ حيث تم قبوله بعد بضعة أيام في إحدى الوزارات؛ وبذلك التحق بعمله موظفاً جديداً بتلكم الوزارة، ومن خلال حياته الجديدة شاهد صنوفا من البشر، وتعامل مع العديد منهم بين إناث وذكور، منهم العمانيون ومنهم الوافدون الذين استقدموا من بلدان شتى للإسهام في خدمة النهضة الحديثة للبلد، منهم الطيب وفيهم أصحاب النيات المغرضة، منهم من يحترم ويقدر الآخر، وبعضهم من يرى الآخرين أدنى مستوى منه، وخاصة هو بصفته شاب قروي لم يخبر من الحياة الكثير عدا الصفات الفاضلة وطيبة القلب ونقائه وصفاء السريرة، ومحافظته على أداء صلواته في وقتها واجتنابه الملذات المحرمة.
ومضى على شكيل شهران ونصف الشهر منذ قدومه إلى العاصمة لم يغادرها قط، وكان مصدر المعرفة عن أخبار قريته بين الفينة والأخرى وعلى فترات متباعدة جداً، رفاقه القلائل الذين كان قد قدم معهم من هناك والذين اعتادوا رحلات السفر بين قريتهم وعملهم بالعاصمة كل منهم في موقع مختلف عن الآخر؛ حيث لم يكن يلتقي بهم باستمرار؛ لانشغال كل منهم بعمله وشؤونه الخاصة؛ ولهذا السبب لم يتمكن هو من الذهاب لقريته، وربما كان يهدف إلى ذلك مع بعض المال لنفسه ووالدته بعد أن أعاد ما عليه من دَيـْن لصاحبه مقروناً بالشكر والتقدير منه له على جميل صنعه معه، فهو حتى اللحظة لم يبدر منه ما يخالف قيمه وأخلاقه الفاضلة، فما عسى شكيل فاعلا عبر قادم الأيام؟.
لقد أصبح الآن أكثر تكيفاً مع البيئة الجديدة، واستقر نوعاً ما بحصوله على المسكن والوظيفة، وراهناً يسعى جاداً إلى مواصلة تعليمه خلال الفترة المسائية، وتعلُّم قيادة السيارات، فالتحق بإحدى المدارس القريبة من مسكنه، في حين كان يخرج بعد انتهاء عمله إلى مدرسة تعليم قيادة السيارات حتى بدأ موعد اليوم الدراسي لتعليم الكبار، ليلتحق مباشرة بفصله الدراسي بعد نيله قسطه اليومي من التدريب على قيادة السيارة، وفي غضون أربعة أشهر أصبحت إجازة قيادة السيارة بحوزة شكيل، فقد اجتاز كل المقررات للحصول على الرخصة، واقتنى مركبة متواضعة خاصة به يتنقل بواسطتها بحرية تامة، فأصبح أكثر حركة وتجوالا عن ذي قبل ونتيجة ذلك رأى في البحر خير وليف له، فبدأ يعشقه بنسماته الباردة ورماله الناعمة وأمواجه الهادئة؛ حيث كان كثيراً ما يوجد بمركبته وكتب دراسته على الشاطئ وبصفة شبه يومية، خصوصاً قبل موعد المدرسة من أيام السنة معتدلة الطقس، وليس شكيل هو الوحيد الذي يرتاد شاطئ البحر، فهناك العديد من الأشخاص الذين يوجدون في المكان ذاته، فرادى ومثنى وجماعات، وكلٌّ اختار الموقع المناسب له وكلٌّ في حاله رغم الجوار بينهم على الشاطئ، في حين ثمة امرأة توجد في المكان وحيدة تصاحب مركبتها كما هو شكيل، والفارق بينهما أنها لم تكن تحمل بين ذراعيها مستقبلها (كتب الدراسة)، بينما هو يُرى منهمكاً في كتبه لمراجعة دروسه.
وشتان بين من أتى لغرض معين وبين من جاء متنزهاً! فهو بتركيزه في كتبه لا يعطي بالاً لما يدور من حوله، وهي تقضي وقت فراغها تناظر موجات البحر الهادئة التي تبتلعها الرمال الناعمة بشراهة ونهم، وبمرور الأيام انشغل فكرها بهذا الشاب، وأخذت تسترق النظر إليه ونفسها تتوق إلى أن يحادثها، لكن هيهات هيهات عن تلكم الأمنية التي لم تكن إلا حلماً حلمت به، فما المنتظر من شكيل الذي تربى على العفة والأخلاق الفاضلة؟ وهي التي رغم ذلك لم تفقد الأمل، واستمرت ترقب الحال ممنية النفس بحصاد جهدها عبر قادم الأيام وحال لسانها يقول: إنه من حقها أن تسعد بصحبة رجل يكون زوجاً مخلصاً لها، فهل سيتحقق مبتغاها من خلال نظرات مسترقة عن بعد دون وجود بارقة أمل من جانب شكيل تجاهها؟ وهل كل من يُرى في الأماكن العامة جديراً أن يكون قريناً صالحاً وشريكاً فاضلاً لتكوين أسرة طيبة صالحة.. في الجزء القادم بإذن الله تعالى سنكشف النتائج من هذا الوجود في ذلكم المكان..