2024
Adsense
مقالات صحفية

التَّعايُش السِّلْمِيّ فِي النَّحوِ الْعَرَبِيّ (5) التوكيد

د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com

يُعد التوكيد أحد التوابع الأربعة التي تحدثنا عنها في مقال سابق، وهو” تابع يذكر تقريرا لمتبوعه؛ لرفع احتمال المجاز، أو السهو”. (د. أمين السيد: 2/ 86)، وله قسمان: الأول: التوكيد المعنوي. والثاني: التوكيد اللفظي.
أما التوكيد المعنوي فهو “تابع يَرْفع احتمال إرادة غير الظاهر”. (د. السامرائي: 2/ 278)، وله ألفاظ هي: نفس، وعين، وكلا، وكلتا، وكل، وجميع، وعامة، وأجمع وتوابعه.
وأما التوكيد اللفظي فهو “تكرار اللفظ الأول بعينه؛ للاعتناء به فعلا كان، أو اسما، أو حرفا، أو جملة”. (د. أمين السيد: 2/ 90).

ولكلا القسمين أحكام نحوية متعددة لا يتسع المجال لذكرها هنا، ولكن فقط سنشير إلى ما يتعلق بأهمية التعايش في سياق نصوصهما.
ويتجلى أمر التعايش في التوكيد المعنوي في تلكم العلاقة التي تربط بين ألفاظ التوكيد بالمؤكد؛ فهي أولا تأخذ نفس حكمه الإعرابي، فإن كان المؤكد مرفوعا كانت تلك الألفاظ مرفوعة، وإن كان المؤكد منصوبا كانت تلك الألفاظ منصوبة، وإن كان المؤكد مجرورا كانت تلك الألفاظ مجرورة، وثانية لا يمكن أن تؤدي هذه الألفاظ دورها في دلالة التوكيد إلا إذا اتصلت برابط يربطها بالمؤكد، ويتمثل هذا الرابط في ضمير يتصل بها، ويطابقه.

وتتضح صورة التعايش بين ألفاظ التوكيد المعنوي عند العطف فيما بينها، فعندما نقول مثلا: قرأت الكتابَ نفسَه عينَه، لا يمكننا عطف (عينه) على (نفسه)، فنضع حرف عطف بينهما؛ لأن التوكيد نفس المؤكد، ولا يجوز عطف الشيء على نفسه، فالتعايش جعل المعنى واحدا، فلا نحتاج أداة عطف بينهما؛ لأن تعدد العطف يدل على تعدد المعاني، ومنه قوله تعالى:” فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ”.( الحجر:30).
وقوله صلى الله عليه وسلم:” لَتدخُلُنَّ الجنَّةَ كلُّكم أجمَعونَ أكتَعونَ”.(الطبراني: 5/337).

ونلحظ في سياق التوكيد المكرر أن ألفاظه استعملت بلا حرف عطف سواء في الآية القرآنية (كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ)، أو في الحديث الشريف (كلُّكم أجمَعونَ أكتَعونَ)، وهذا يدل على قوة التماسك النصي بين ألفاظ التوكيد بعضها مع بعض؛ ومن ثمَّ كان التعايش فيما بينها واضحا وجليا.

وتسمو علاقة التعايش في ذلكم الاحترام والتقدير بين تلك الألفاظ عند تكرارها، كما رأينا ذلك من قبل؛ حيث التزام الترتيب بين النفس والعين في قولنا: قرأت الكتابَ نفسَه عينَه، فلا يتقدم التوكيد بالعين على التوكيد بالنفس، كما لم يتقدم التوكيد بأجمع على التوكيد بكل في سياق الآية والحديث كما رأينا من قبل، فلكل دوره، والكل يدرك أهمية الموقعية السياقية.

وتبدو الموقعية في البناء النصي بين المؤكد وألفاظ التوكيد؛ حيث تلتزم تلك الألفاظ موقعها، فلا تتقدم عليه، فلا يجوز القول: قرأت نفسه عينه الكتاب.

وأما التوكيد اللفظي فتتجلى فيه علاقة التعايش بين ألفاظه، وقد رأينا من خلال تعريفه أنه تكرار اللفظ الأول بعينه سواء أكان فعلا أم اسما أم حرفا أم جملة بنوعيها، ولا يخفى ما في تكرار اللفظ من قوة في المعنى، وترابط بنيان النص بعضه ببعض؛ مما يحدث تعايشا وانسجاما وتآلفا.

ومن شواهد التوكيد اللفظي في القرآن الكريم قوله عز وجل:” فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا”. ( الشرح:5، 6). وهنا توكيد جملة اسمية؛ حيث كُرّرت جملة (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) بألفاظها مرة ثانية، ومعنى التكرار هنا مقصود من خلال بيان قوة الثقة والإيمان في لطف الله الخفي حين يزيل همومنا، ويريح أنفسنا، فمهما كان العسر شديدا فإن اليسر رفيقه.

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:” أيُّما امرأةٍ نَكَحَت نَفْسَها بغيرِ إذْنِ وَليِّها فنِكاحُها باطلٌ، فنِكاحُها باطلٌ، فنِكاحُها باطلٌ”. (شعيب الأرناؤوط: 5/92). وهنا توكيد جملة اسمية؛ حيث كُررت جملة (فنِكاحُها باطلٌ) بألفاظها أكثر من مرة، ودلالة تكرار الجواب مقصودة في سياق الحديث؛ حيث تزيد المعنى قوة من خلال التأكيد على المعنى المراد من بطلان النكاح بلا وليّ.
ومنه قول جميل بثينة، والبيت من الكامل:
لَا لَا أَبُوحُ بِحُبِّ بَثْنَةَ إِنَّهَا * * * أَخَذَتْ عَلَيَّ مَوَاثِقًا وَعُهُودَا
ونوع التوكيد في البيت توكيد حرف بـ (لا)؛ حيث كُرّر الحرف (لَا) بلفظه مرة ثانية، وشتان بين التعبير به في سياقٍ وحده، وتكراره في مرحلة التوكيد! وسياق البيت يقبل أن تكون (لا) الثانية توكيدا، وفيه من الدلالات ما فيه! خلافا لمن عدّ (لا) الأولى حرف جواب، و(لا) الثانية نافية.

التوكيد المعنوي والتوكيد اللفظي بين الاستعمال والإهمال:
من خلال الواقع الذي نستخدم فيه اللغة بألفاظ التوكيد بقسميه نلحظ أن بعض ألفاظ التوكيد المعنوي تستخدم في لغة الكتابة في كافة مجالاتها، في حين يقل استخدام التوكيد اللفظي، بل ينظر بعضنا إلى سياق نص فيه كلمات مكررة أن هناك خللا في الصياغة؛ حيث لا داعي لتكرار الكلمات دون أن يكون ملما بأغراض التوكيد اللفظي، ومراد صاحب النص.
أما في اللغة الاتصالية فإننا منذ طفولتنا حتى المشيب، ونحن نستخدم كثيرا التوكيد اللفظي، في حين يقل استخدامنا ألفاظ التوكيد المعنوي، ولنذكر بعض النماذج السياقية التي يرد فيها التوكيد اللفظي مستخدَما.

أولا: في مشهد الأطفال الرضع، وفي الغالب بعد مرور ستة أشهر إلى سنة؛ نلحظ أصواتا يلتقطونها من خلال سماع أصوات من حولهم خاصة الأمهات، وهن يعلمن أطفالهن نطق بعض الأصوات من خلال التكرار؛ أي تكرار الصوت خاصة صوتي (الميم) و (الباء) من خلال نطق الحرفين مفتوحين، هكذا (مَ) و (بَ)، وفي مرحلة ثانية تشبع الأمهات نطق الحركة؛ فيتولد حرف الألف، هكذا (ما ) و (با)، ثم في مرحلة ثالثة تكرر الأمهات نطق الصوت مرتين منفصلتين، هكذا (ما ما ) و (با با )، ثم في مرحلة رابعة، وبعد تدريب متواصل تبدأ الأمهات في نطق الصوت مرتين، لكن أكثر سرعة في تقاربهما معا من المرحلة الثالثة، ومن ثم إذا استجاب الطفل؛ فإنه ينطق كلمة كم انتظرتها الأسرة طويلا! فيقول: (ماما) و (بابا) والأسرة في فرح وسعادة غامرة كلما كرر طفلهم تلك الأصوات بهذه الطريقة.

ثانيا: في مشهد لقاء الأبناء بأسرهم وهم في الدراسة عند معرفتهم درجاتهم في الاختبارات خاصة لو حقق أحدهم مستوى متقدما من مستويات الطلاب الأوائل، فنجده يسرع وينطق كلمات مكررة لم تأتِ عبثا على لسانه، وإنما لها دلالتها بالفطرة التي فُطر عليها؛ فيقول:(أمي أمي، لقد حققت المركز الأول أو الثاني …)، أو يقول:(أبي أبي، لقد حققت المركز الأول أو الثاني …)، وينتظر رد فعل ممن أمامه، وما أجمل تلك اللحظات حين نحتضنهم فرحين بهم، وبما حققوه!

ثالثا: وفي مشهد أنين مريض، وهو في مرضه نجد تكرارا للتوكيد اللفظي كثيرا خاصة إذا شعر بألم شديد؛ فيقول مثلا:(آه.. آه.. آه..) مكررا تلك الأصوات التي تعني شدة الألم والوجع.

رابعا: وفي مشهد استخدام أسلوب النداء فيما بيننا، نجد أنفسنا نعيد تكرار بعض الكلمات، ونحن نتحدث عندما لا يسمعنا من أمامنا، أو نريد جذب انتباهه لأمر ما، أو غير ذلك، فنقول مثلا:(أحمد، انتبه!)، ولو أردنا التركيز على الاسم لقلنا:(أحمد أحمد، انتبه!)، ولو أردنا التركيز على الفعل لقلنا: (أحمد، انتبه انتبه!).
ويتجلى الأمر عند الآباء والأمهات عندما يقدّمون النصائح لأبنائهم وبناتهم، فنسمع أبا يقول لابنه:(يا بني، اسمع الكلام!)، ويكررها أكثر من مرة، وتلك أم تقول لابنتها: (أفهمتِ الكلام؟) مكررة تلك الجملة أو أحد عنصريها حسب سياق الحديث، وهكذا.

المشاهد والنماذج كثيرة جدا خاصة للتوكيد اللفظي في اللغة الاتصالية، وما أجملها من علاقة مترابطة بين ألفاظ التوكيد المعنوي! فقد ضربت لنا أروع الأمثلة في ذلكم الترابط النصي في التعايش السلمي من خلال تلك العلاقات السياقية المتنوعة التي تبدو كأنها لُحمة واحدة فيما بينها وبين بعضها، وبينها وبين المؤكد.

وما أعظم التوكيد اللفظي حين نستخدمه بدءا من مرحلة طفولتنا حتى مشيبنا! وإنها لسياقات مليئة بالدلالات القوية حين نستخدم تكرار التوكيد في لغتنا الاتصالية؛ فتنشأ عنه معانٍ مرجوة بألفاظ قليلة، وهذا من شجاعة العربية، وللتعايش بقية..

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights