التَّعايُش السِّلْمِيّ فِي النَّحوِ الْعَرَبِيّ (4) النَّعْت
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
يُعد النعت (الصفة) تابعا من التوابع، والتوابع جمع (التابع)، وهو”الاسم المشارك لما قبله في إعرابه مطلقا، أي أنه يعرب بإعراب ما قبله، فيرفع إن كان تابعا لمرفوع، وينصب إن كان تابعا لمنصوب، ويجر إن كان تابعا لمجرور”. (النحو العربي أحكام ومعانٍ 2/ 257)
والتوابع عند النحاة أربعة: النعت، والتوكيد، والعطف، والبدل، ولكل قسم أحكامه الخاصة به التي لا يتسع المجال لذكرها هنا، ولكن نكتفي بالإشارة إلى بعض منها.
ثمَّة علاقاتٌ وشيجة نشأت بين هذه الأبواب النحوية تتجلّى فيها كيفية التعايش السلمي من خلال التناغم والتناسق والانسجام في التبعية بين النعت والمنعوت، والتوكيد والمؤكد، والعطف والمعطوف عليه، والبدل والمبدل منه، ومن أهم هذه العلاقات المحافظة على الموقعية بين كل منهما.
والمتأمل بناء النص اللغوي يدرك أهمية استخدام تلك الأبواب النحوية الأربعة في لُحْمة أي نص ترد فيه، وتؤدي من خلال العلاقات السياقية دورا بارزا في بناء التكامل المعرفي بين النصوص اللغوية من خلال الترابط النصي فيما بينها.
ونبدأ حديثنا هنا من خلال بيان هذا التعايش في باب النعت؛ حيث ينقسم قسمين: الأول: النعت الحقيقي. والثاني: النعت السببي.
الأول: النعت الحقيقي، وهو يُبيّن صفة من صفات متبوعه (الاسم الذي يكون قبله)، ولنأخذ مثالا لذلك ما رواه أبو هريرة – رضي الله عنه- في قول النبي -صلى الله عليه وسلم :” الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ، خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ”. (مسلم: 2664).
ونلحظ هذا الانسجام النصي بين النعت في كلمتي (القوي) و (الضعيف) ومنعوتهما (المؤمن)، وتتجلّى تلك العلاقة في تابعية النعت المنعوت في كليهما؛ حيث تابع النعت المنعوت في الإعراب رفعا (الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ)، وجرا (المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ)، وكذلك في النوع، فالمنعوت والنعت كلاهما مذكران، وأيضا جاءت المطابقة بينهما في العدد، فكلاهما مفردان، وظهر التعايش بينهما في مجيئهما مُعرّفين بالألف واللام، ولم يخرج أحدهما عن رفيق دربه في هذه المطابقات، وإنما تعايش كل منهما مع الآخر كأنهما في أسرة واحدة يعملان معا في سبيل المحافظة على تقوية الروابط بين تلك الأسرة من خلال العلاقات السياقية التي تحافظ على بناء النص وانسجامه، وكأن هناك أسسا ثابتة واضحة، ومعالم قوية متينة لها دورها في بناء النص اللغوي وتقوية روابطه ودلالاته المتنوعة، ومنها أن صفة القوة مع الإيمان مقدمة في الخيرية ومحببة إلى الله عز وجل، وما أحوجنا إلى ذلك!
الثاني: النعت السببي، وهو يُبيّن صفة من صفات اسم يأتي بعده، ويتصل هذا الاسم بضمير يعود على المنعوت الذي قبل النعت، وتتجلى العلاقة والمعايشة بين النعت السببي ومنعوته أكثر من النعت الحقيقي؛ حيث لاحظنا أن هناك مطابقة بين النعت الحقيقي ومنعوته في أربعة أشياء كما سبق بيان ذلك، وأما علاقة النعت السببي فليست قائمة على مطابقة منعوته فقط، وإنما تنشأ مطابقة أخرى بينه وبين ما بعده، ويتضح الأمر من خلال قوله تعالى:(إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا). (سورة البقرة: من الآية 69).
فالمنعوت كلمة (بقرة)، والنعت الحقيقي (صفراء)، والنعت السببي (فاقع)، وقد بيّن النعت السببي صفة في كلمة بعده رفعها، وهي(لونها)، واتصلت هذه الكلمة بضمير (ها) يعود على المنعوت ويطابقه، وهو الرابط الذي يؤدي دور التعايش والعلاقة بين النعت (فاقع) ومنعوته (بقرة)، وما بعده (لون)؛ وبسبب هذا الضمير سُمّي النعت السببي.
وما بين اللفظ والمعنى يتجلّى دور النعت السببي في بناء النص وتكامل دلالاته؛ فمن حيث اللفظ يتضح من خلال علاقة الإعراب، فالمنعوت (بَقَرَةٌ) جاء مرفوعا، وكذلك النعت السببي (فاقعٌ)، ومن حيث المعنى، فالوصف هنا للون بأنه (فاقعٌ)، وكل منهما نكرة.
وأما التعايش بين النعت السببي وما بعده؛ فتمثل في التعايش العددي، فكل منهما مفرد، وكذلك في النوع، فكل منهما مذكر، ولو كانت المطابقة بين النعت السببي ومنعوته في النوع لجاء مؤنثا مثله؛ لأن المنعوت مؤنث (بقرة)، وأما النعت السببي (فاقع) فمذكر.
ما أجمل النعت بقسميه الحقيقي والسببي! وما أعظم احترام النعت الحقيقي منعوته وتقدير أهمية الموقعية بينهما! وما أسعد النعت السببي حين تعايش مع منعوته قبله، ومع مرفوعه بعده، وتجلت صفة العدل في المطابقة؛ حيث طابق الأول في اثنين، وطابق مرفوعه الذي بعده في اثنين أيضا! وقد أدرك مفهوم التعايش أنه ليس فقط مع منعوته، وإنما مع جاره الذي سكن الجملة بعده؛ ولكي تقوى العلاقة بينهما؛ اتصل المرفوع المتأخر بعد النعت السببي بضمير يعود على المنعوت ويطابقه، ويعد هذا الضمير أساس التلاحم النصيّ في سياق جملة النعت السببيّ، وما أحوجنا إلى وجود مثل هذا الضمير في حياتنا حين غابت ضمائر كثيرة! وللتعايش بقية..