وفاة إنسان كريم ضاحك
صموئيل نبيل أديب
الفائز بجائزة فارس الإبداع العربي 2020
يضع الأقلام الزرقاء في جيبه ويأخذني معه إلى السوق، يضعني أمامه على العجلة، في طريق لا يستغرق خمس دقائق، ولكنه يقطعه في ربع ساعة، بعد أن يطرق أبواب الجيران لعلهم يحتاجون شيئاً من السوق، بينما ألعب أنا في جرس العجلة الصيني.
يدردش مع بائع التفاح، فيخبره البائع عن أولاده في الدراسة، بينما يدفع عمّي (أنسي) الحساب.
يُخرج الأقلام من جيبه ويعطيها للبائع قائلاً:
أقلام فرنساوي أصلي؛ لكي يكتب بها أولادك في الامتحان.
تلاحقه دعوات البائع بينما يحمل أكياس التفاح ويمضي، يقابل صديقه، فيصرّ الأستاذ أنسي على دعوته للمنزل، وإذ يعتذر، يقرر أن يعطيه تفاحة أو اثنتين وهو يضحك قائلاً:
(اتسلّى بيهم في السكة لحدّ ما توصل).
يتكرر الأمر مع صديق ثانٍ وثالث ورابع، حتى نصل إلى المنزل، ليتحوّل الكيس من 5 كيلو تفاح إلى كيلو واحد فقط.
أعلم ما سيحدث لاحقاً عندما تكتشف زوجته الأمر، فيخبرها ضاحكاً:
(مش انتي قلتي هات نص كيلو؟)
وهو يضع في جيبي قطعة شوكولاته حتى لا أفتن عليه، تضحك زوجته، وهي تنظر إليّ وأنا آكل الشوكولاته دليل الرشوة، فقد تزوجتْه على عيبه، وعيبه كان الكرم الشديد.
تسأله: و ماذا سنقدم للضيوف اليوم؟ فيخبرها أنه سيصنع كيكة تليق بهم.
تقترب الساعة من السادسة مساءً، يُجلسني معه في البلكونة في الطابق الأول وهو يأكل قطعة من الكيكة الساخنة، بعدها بدقيقة، يمرّ سائق حنطور أسفل العمارة، فيشير له عمي قائلاً: اتفضل، فيجيبه: “يزيد فضلك”. يخبره أن ينتظر قليلاً بينما يضع قطع الكيكة في (السَبَت) وينزلها له من البلكونة، يتعجب سائق الحنطور من الموقف، ولكنه يأخذ الكيكة وينصرف، بينما أسمع دعواته لعمي مستمرة حتى بعد دخوله الشارع الجانبي. أسأل عمي: أتعرفه؟ فينظر إليّ قائلاً: (لا، ولكنه مرّ في الصباح حزيناً، والآن أيضاً هو حزين، يبدو أنه لم يسترزق اليوم).
أضحك؛ لأني أعرف ما سيحدث لاحقاً من زوجته عندما تكتشف أنه حتى الكيكة قدّمها للغرباء، ولم يَبْقَ منها للضيوف؛ لذا أتسلل من منزله، وأعود إلى بيتي وأنا أسمعه يناديني ضاحكاً: “كده تسيب عمك يا جبان”.
لم تكن تصرفاته غريبة علينا، عرفناه قوياً على نفسه بطريقة يتعجّب منها بعضنا، أخبر زوجته أنه سيذهب إلى القاهرة في مأمورية عمل لمدة أربعة أيام، فجهزت له الشنطة وسافر، ليعود لها محمولاً في سيارة الإسعاف لتكتشف أنه لا توجد مأمورية، وإنما قد ذهب إلى المستشفى بمفرده، وأُجريَت له عملية استئصال المرارة، دون أن يخبر زوجته، ولا إخوته الخمسة، ولا حتى أمّه.
عاش يحمل آلامه لنفسه (فكله شايل همومه ومحدش مستحمل حد) كما كان يقول، ولكنه لم يتوقف عن مشاركة آلام الآخرين، هو أول من يحضر في المستشفى للسؤال، وآخر من يرحل في الجنازات بعد أن يطمئنّ أن أسرة المتوفى قد أكلت من الطعام الذي صنعه.
كبرتُ أنا وسافرت، وتفصلنا مسافة 500 كم، ولكن اهتمامه بي كان يجعلني أشعر أنه في الشقة المجاورة.
هو إنسان عرف كيف يضحك على الحياة ويضحك منها، ويضحكنا في وسط همومنا، ويُفرحنا في وسط متاعبنا.
حتى في موته، لم يُرد أن يتعبنا معه، استيقظ صباحاً، وشعر بألمٍ في صدره، أحسّ أنه قد تعب من الدنيا، واشتاق إلى الأحبّة، ليرحل إليهم فجأة.
بلا كلام ولا سلام ولا وداع، رحل في صمت، ليسكت الفم الضاحك إلى الأبد، ويصمت رقم تليفونه عن الرنين، ويختفي صوت جرس عجلته من الشوارع، ويتركني بلا سند يواسيني في الطريق.
رحل دون أن أخبره أنه أجمل ما تمّت كتابته في صفحة حياتي.