2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

ما بين العفية ودار الحي

عبدالله بن حمدان الفارسي

قادتني مشيئة الله، لتلك المدينة الراقية، التي تتألق بريقًا وزهوًا يومًا عن يوم ، التقيت بها واحتضنتي صغيرا، حين ناخت بي راحلة قدري فيها، ولترسو في فرضتها – مرسى السفن – السفينة التي أقلتني إليها أواخر الستينات، وعمري وقتها لا يتجاوز العقد الأول، فكرة رحلتي إلى تلك الإمارة الصاعدة التي لا تكل ولا تمل من الصعود، أبهرت كل شيء لدي خاصة ساعة وصولنا إليها ليلا، ومشاهدتي لتلك الأبنية متعددة الطوابق المحاذية للبحر وأضوائها المتساقطة عليه لتعوم رقصًا على أمواجه الهادئة.
إنها “إمارة دبي” استحوذ جمالها الأخاذ على عقلي وتملك قلبي وأيقظ شعور الدهشة من مضجعه، ذلك الزخم من الناس والمركبات المتنوعة والحركة الدؤوبة والطرق الأسفلتية، لم أعتد عليها في مدينتي، هذه المشاهد هي جزء من واقع المدينة الأجمل، كل هذا الانبهار وأنا ما زلت على سطح السفينة، عالم تناسيت معه معاناة البحر الذي لم يتعاطف مع وهن جسدي، ولم يرق له قلب عليّ، رحلتي إلى دبي فكرة أبداها خالي -بارك الله في عمره- ونفذها، دون معارضة أو حتى نقاش عابر من العائلة ، حيث أنه كان من يتولى ولاية أمري بعد وفاة والدي رحمة الله عليه، وكان خالي من بيده حبل زمام أمور العائلة وإدارة دفتها، فقد بعث مكتوبًا بما يسمى حينها ( بالخط ) لوالدتي محتواه رغبته في إرسالي إلى إمارة دبي حيث يعمل، قبل انضمامها لإتحاد الامارات، تحت قيادة مؤسس الاتحاد، زايد الخير طيب الله ثراه، رحلتي لتلك المدينة الزاهية، كان الهدف منها الالتحاق بالمدارس النظامية فيها، وكان خالي من القلائل في مدينتي الذين يولون التعليم أهمية برغم أميته، وهذا أمر يعود فيه الفضل الأول بعد الله على تحسين نمط حياتي فيما بعد، حيث كانت مدينتي في تلك الفترة يقتصر التعليم فيها على القرآن الكريم وحفظه.

غادرت مدينتي صور المطلة على بحر العرب من جهة، وخليج عمان من جهة أخرى، غادرتها طفلًا رغمًا عني وليس لي من الأمر حيلة ولا استطاعة على الرفض، رضخت لما تم اتخاذه مكرهًا لا طائعًا، مفارقًا والدتي -ربي يبارك في عمرها- وبقية أفراد العائلة، ورفقاء اللهو والمغامرات الطفولية البريئة، دموع تنهمر من الأعين لحظات التوديع مؤلمة، فراق من اعتدت وتعودت عليهم فهو ليس بالأمر الهين. مشهد مبكِ صامت تمازجت معه الأصوات وصعب فهمها، إلا من لغة العيون ودموعها الناطقة بالإيماء والإشارة، في مشهد لتوديع مجاهد آخر من أبناء الولاية للحاق بركب من سبقوه لغايات مشابهة أو مختلفة، فالمهم الخروج والتحليق خارج العش للبحث عن الأفضل، مخلفًا وتاركًا ذكريات الصبا والطفولة في مدينتي التي هي بمثابة قطعة من قلبي، لحظات التوديع تلك شاركنا فيها الجيران، وتباكت معنا الجدران التي كنا نلهو ونلعب في ظلالها، والسكيك التي نجوبها لا يمنعنا شيء عنها سوى نوم الليل.
(العفية) هكذا يطلق على مدينتي لنقاء مناخها على تعاقب فصول السنة عليها، والتى كانت المشفى لمن يسعى للنقاهة والاستجمام والاستشفاء، كانت أغلب مساكن أهلها مكونة من سعف النخيل، والتي لا تخلو أيضًا من بعض المنازل المبنية من الحجارة والطين وفيها( الغرف )-يعني ذات طابق علوي- التي يمتلكها عليّة القوم ومن بمستواهم. المدينة ذات الصبغة التجارية لموقعها، والتي تزداد انتعاشًا ونشاطًا في فصل الصيف عند عودة السفرية – المغتربين – من أجل العمل، والقليل منهم طلبة للعلم، عودة تنعش الحركة وتحيي ليالي الطرب والسمر، ما عدا ذلك فمدينتي تخلد للنوم من بعد صلاة العشاء، إلا من بعض ( الرماسة ) الذين لا تتجاوز جلسات السهر لديهم خارج منازلهم الساعة العاشرة مساءً، ويدب فيها النشاط والحيوية ما بين صياح الديكة وأذان الفجر، المدينة التي تستهل يومها بإشراق الشمس عليها كأول مدينة عربية تحظى بهذا الشرف الذي حباها الله به، يغلب على قاطنيها البساطة والتكاتف والتعاضد فيما بينهم ، صور بموقعها الجغرافي جاورت البحر ليجور عليها أحيانا عندما يشتد غضبه، ويكون في حالة مده وطغيانه باقتحام المساكن القريبة منه، متسللًا لها وللحواري جهارا، وكأن لسان حاله يقول كفاكم زحفًا نحوي وضقت ذرعا بكم، ولكن الناس قد تأقلمت مع تلك الأوضاع، واستطاب لهم العيش معه لاسيما أنه أحد مصادر الرزق التي لاغنى عنها، غضب البحر وسخطه لا يأخد الديمومة بقدر كرمه وجوده إلا محدودًا حين يفيض بخيراته، لم تكن وسائل النقل الحديثة كالتي نراها ونستعمل بعضها الآن ومتوفرة، لأول مرة في حياتي تكون لي تجربة حقيقية مع البحر بالرغم من مجاورتي له ومعايشته، إلا إن تلك التجربة لا تتعدى أكثر من السباحة على سيفه واللعب على – الطينة – رمال البحر في حالة الجزر، كانت تجربتي بالتجرء على ركوبه والتقرب منه أكثر تجربة قاسية جدًا بكل ما تتضمن هذه الكلمة من معنى، خاصة لشخص في سني وليست له تجارب مماثلة سابقة، الأمر الذي أشعل فتيل النسيان في دفاتر ذاكرتي وأحرقها في وقتها، بحيث تعامله معي – البحر – لم يتعاطف مع طفولتي وبراءتي لذى لا أتذكر كل تفاصيل رحلتي سوى البائسة منها وأيضا ليست كلها، حيث ركوب السفن التقليدية لأول مرة، والسفر إلى أماكن بعيدة قاضياً أيامًا طوال لا ترى فيها سوى الشمس نهارًا والنجوم والقمر ليلا، ولا تقتات إلا على القليل مما هو أقل من المتاح، والشعور بأنك سجين مع وحش لا بد من التعايش معه، فقسوة البحر وأهواله والروائح المنبثقة من باطن السفينة – الخن – تفقدك توازنك وشهيتك للأكل وتمتنع عن أي شيء يدخل جوفك، تجنبًا من إفراغه، وجلد معدتك بالألم من جراء ذلك، إلا ما تيسر منه، وقطرات من الماء لإحياء مكونات جوفك وتنشيطها بين فترة وأخرى والابقاء على حياتك، لم يكن بقية الصبية ممن كانوا معي على متن السفينة مروا بتجربتي، من حيث المعاناة، لربما كان ذلك لتمتعهم بقوة تحمل وبنية جسمانية أشد جلدًا من بنيتي، كان بعضاً بصحبة أحد أقربائه وبعضناً مع أحد من المعارف أو الجيران، أو شخص من أبناء المدينة يعمل على تلك السفينة التي تصارع عباب البحر لتوكل إليه مهمة توصيل الصبي إلى ولي أمره في البلد الآخر، وأنا كنت ممن بُعث مع أحد الجيران الطيبين رحمة الله عليه.

السفينة حسب ذاكرتي التي شاخت قبل أوانها من هول ما مرت به وشاهدته كان على ظهرها ركاب رحلتهم مختلفة الأهداف والتوجهات، منهم طالب للعلم، ومنهم باحث عن عمل وزائر لقريب، وربما باحث عنه نظرًا لانقطاع أخباره عن ذويه لمدة ليست بالقصيرة. فلمدينة دبي مكانة خاصة مرموقة، ذكريات جميلة لا يمكن تجاوزها، كذلك من الصعوبة بمكان وصف تلك الفترة التي عشتها في كنفها ووسط أهلها بكل تفاصيلها الدقيقة، مراحل دراسية مختلفة في أروقة منابرها التعليمية، بدءا من مدرسة الشعب إلى مدارس أخرى كمدرسة جميرا ومدرسة أم سقيم وثانوية أبو علاء المعري، وتكوين قلاع وجسور من الصداقة والأخوة، وفيهم من قام بدور الأم في إحتتضاني ورعايتي ومعاملتي المعاملة المميزة، الأمر الذي خفف من حدة الشوق والاشتياق للوطن والأهل، وليس ذلك بالغريب على أهل دبي، حيث الكرم والشهامة، والعادات المشابهة لما اعتدت عليه في بلدي، فما زالت ركائز وجذور تلك الفترة بكل تجلياتها راسخة في الذهن والقلب إلى ما شاء الله.

وبعد سنوات من التغرب والابتعاد لا بد من عودة الطيور المهاجرة لأرض الوطن، بعد أن منً الله على عمان بباني نهضتها الذي انتشلها من براثن التخلف إلى ركب التطور، إنه السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، لقد عُدنا ووجدنا ما وُعِدنا به من طفرة تطويرية واكبت متطلبات ومستجدات العصر..
شكرًا دبي المتلألة حبًا ورخاء وكرما ما، شكرًا لأهلها الذين كانوا لنا بعد الله عونًا وسندًا حيث كانوا الأهل وكنا في منأى عن بعض، رحم الله من غيبه اليقين عنا وأسكنه فسيح جناته، وأطال وبارك في عمر الحي منهم ومنحه الصحة والعافية .. وسلاما للعفية وسلامًا موصولًا لدار الحي.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights