كلاب الغنم
أحمد بن سليم الحراصي
لم تكن صفة الوفاء يوما مرتبطة بحيوان ما أو إنسان أبد الدهر إلا القلة النادرة التي لا تتجاوز أصابع اليد الخمسة، فكثيرا ما قرأنا قصصا سطرها التاريخ لكلاب وفية تخرج مع الراعي فجرا فتحرس له أغنامه وشياهه من الذئب فكانت تحس وتشعر ما لا يستطيع هذا الراعي الشعور به وتنقذه من الكثير من المهالك التي كانت حتمية بموت الكثير من حلاله هذا ولكن لأن الكلب كان المنقذ من كل هذه المهالك، كانت الأمور تجري على ما يرام، كان هذا الراعي يخاف من ذئب النعاج ولم يكن هناك وسيلة تنقذه من هذه الذئاب سوى الكلب الذي يرافقه ليكون حارسه ولكن ما كان هذا ليدوم طويلا عندما يصبح فجأة -كلب الرعاة- ذئبا!.
كلاب كانت أو لم تكن تعيش ضمن القرية التي عاش فيها الراعي، من أين أتت؟ ومن ذا الذي أتى بها إلى هذه القرى التي يملك أهلها الكثير من الأغنام والشياه؟ لا أحد يعرف من أين مصدرها ولكنهم دائما حذرون وخائفون على حلالهم من أن يضيع سدى نتيجة عضة ناب كلب غادرة أودت بحياة تلك الماشية،فأنا لم أصدق يوما حقيقة ما يُقال بأن الكلاب أوفى من بعض البشر وأنها بريئة على عكس الناس الذين نعرفهم، فنحن كنا نمتلك كلبا وفيا لأكثر من عشر سنوات، كانت كل الأغنام حوله تألفه ولم يكن هناك أدنى شك لوفائه، كان فعلا كالصاحب للحيوانات ولم تكن هناك أية إشارة منه في أن يشن غارة على قطيع من الأغنام، ولكن فجأة ودون أية مقدمات أغار على قطعان من الغنم كانت تخص الجيران ولولا أننا لم نشاهده أمام مرأى العين لكنا كذَّبنا كل الأقوال عنه، لذا اختار أخي التخلص منه قبل أن يفعل ما لن يكون في الحسبان فقتل الكلب أولى من قطيعة الجار، ورغم الكثير من الشكاوى التي كانت تأتينا عنه من الجيران، لكن من كان سيصدق أن كلبا وفيا لأكثر من عشر سنوات أن يصل لهذه الحالة فجأة؟ ومع هذا إن كنت ستصدقني فهو لم يكن كلبا ينهش بأنيابه أغنامنا، كانت لديه عزة وكبرياء فأبى إلا أن ينهش أغنام الجيران فهل يا ترى أخذ منهم شيئا لم يعجبه أم أنهم آذوه فقرر الانتقام وتحول إلى شرارة فتنة؟
هذا ما يمكن قوله عن كلب عاش طويلا معك واستحسنته وضمنت وفائه، ولكن ماذا عن الكلاب الغريبة التي لا نعرف من أين أتت ومن أين نزلت؟ وهل هي مسعورة أم مصابة بداء الكلب؟ كلاب مستذئبة تنقض على الشياه والأغنام فتنهشها بأنيابها وتتركها طريحة تعاني آلاما لن تصل نهايتها إلا إلى الموت؛ فأنيابها قوية لدرجة إسالة دمائها وإخراج أمعائها وبالطبع كل من نابها كلب لا يؤكل لحمها فتصبح خسارة لصاحبها، هذه الكلاب تطارد هذه الأغنام والشياه في منطقة معزولة، وأيا كانت هذه المنطقة سواء صحراء شاسعة أو سيح أجرد، تقتنصها دون حسيب أو رقيب يعاتبها أو يمنعها، كلابُ كالذئاب أو أشد قسوة فشكلها يوحي على أنها خُلقت على هذه الوحشية ولم تكن وفية يوما لإنسان أو حيوان وليست أليفة كما تكون الكلاب الوفية المعروفة، تنهش الشياه الأغنام وكأنها. رسالة انتقام، دون أن تأكلها فهي ليست بحاجة إلى ذلك وهذا أمر وحده يجعل الإنسان في حيرة ليتساءل عن ما يدور في خلد هذه الكلاب بترك أثر أنيابها وعضاتها وتجعلها تعاني سكرات الموت دون أكلها؟!.
ومن الطرائف التي حدثت، فقد أخبرني أحدهم بأنه كان له عدد من المواشي ويوم بعد يوم وهو يرى بأن مواشيه تأتي دائما منهكة وكأنها قادمة من مطاردة أنهكت قواها قبل أن تصل أمام تلة بيته لتحتمي وتتخلص من هذه المطاردة، يقول ارتأيت أن أنظر وأرى ما يحدث خلف التلة، فرأيت كلبا أسودا يطاردها، فأشهرت سلاحي لقتله والتخلص منه، ولكن ما فاجأني بأن الكلب لم يُحرَّك ساكنا وهو ينظر إليَّ كمن ينظر إلى مرآة، فأطلقت عليه الطلقة الأولى ولأنني لست رامٍّ جيدٍ فقد أخطاته وما ازداد من غضبي هو أن الكلب الأسود ذو العيون السوداء لا يزال واقفا غير مبال بصوت الطلقة الأولى وكأن شيء لم يكن، ثم أطلقت الثانية وأخطأته والكلب ينظر إليَّ وكأنه يقول في نفسه (ماذا يفعل هذا هكذا؟!) ولسانه تتدلى وتسيل لعابا وكأنه يحاول أن يغيظني ثم أطلقت الثالثة فأصابته في رجله ولو أنني غير متأكد من إصابته فقد ظننت أنني ضربت حجرة وارتمت هذه الحجرة في قدمه وسرعان ما سمعت عوائه وولولته وهمَّ بي يطاردني لكي ينهشني ولم يكن في بالي سوى أن أترك كل شيء وأهرب، فقد تركت السلاح وتركت حذائي وبالله إنني وليت هاربا ودون أن أنظر خلفي مخلفا ورائي الغبار وكنت أتوجس العضة أين ستكون ولكن وبحمد الله أنه تراجع عن مطاردتي، فبت أتساءل ما هذا الكلب؟ هل هو ظالم (ساحر) تحول فجأة إلى كلب نعاج؟ وما اشتد من خوفي أنه لم يغادر فظل ماكثا هناك لا أدري كم من الوقت وما بين يوم وآخر أراه ينظر إليَّ مكشرا أنيابه وأنا أرتعد خوفا من هذه النظرات ورغم أن الرجل بطبعه يخاف فقد ألقت نظرات هذا المتوحش في قلبه الرعب ثم اختفى الكلب بعد أيام فسجد شكرا لاختفائه فلم يكن بيده أن يفعل شيئًا تجاهه رغم محاولاته البائسة لإخراجه ولكن الخوف تعلًَق به أيما تعلُّق خوفا من أن يكون هذا الكلب جنياً.
كلاب الغنم كانت كلاب الرعاة تحرس أغنامهم بين حين وآخر وترعى لهم عندما لا يوجد راعٍ يرعاها ولكن بين اليوم والأمس تناقض لا يمكن تفسيره، فأصبحت الكلاب ذئابا، فهل لأن الكلاب كانت تتصنع الوفاء لمصلحة وعندما انتهت المصلحة راحت ضيحتها الأغنام, أم لأن البشر أساءوا لها وعلى هذه الإساءة ردًَت بالانتقام؟ أنا لا أبتغي جدلا هنا في وفاء الكلب من عدمه ولكن لأن بعض الكلاب لا يمكن ترويضها ،يجب التخلص منها بهدوء دون أن يرف لكم جفنا؛ لأن في بقائها تفكيكٌ للعلاقات والود وضياعٌ لحلالك الذي هو أمانة بيدك لا يمكن إسرافها هدرا.