2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

الانفتاح الطبقي في دولنا العربية

شهاب أحمد

إننا اليوم نسير في طريق الحضارة الحديثة بخطى سريعة، وهذا لا بد أن يؤدي إلى ظهور مشاكل مستعصية يجب معالجتها، فكل شيء في هذه الدنيا له ثمنه، أو كما قال الشاعر العربي القديم:(ولا بُدَّ دون الشهْد من إبَرِ النحْلِ).

إن التعليم الحديث كان له أثره المهم جداً في تطوير المجتمع العربي، وفي تطوير الفرد من حيث تفكيره وسلوكه، ولعلني لا أغالي إذا قلت: إن التعليم الحديث كان له الدور الأكبر من حيث تحريك المجتمع نحو الحضارة الحديثة؛ حيث نقارن بما كان الطفل ينشأ عليه في العهود السابقة، وصار ينشأ عليه الآن الذي أصبح تحت تأثير التعليم الحديث نجد فرقاً كبيراً جداً، أو بالأحرى نجد تبدلاً جذرياً .

كان الطفل في العهود السابقة ينشأ على المبدأ القائل:(ما يصيبك إلا نصيبك)، و(اللي انكتب على الجبين لازم تشوفه العين)، و(كل شيء قسمة ونصيب)، و(القناعة كنز لا يفنى)، وما أشبه بذلك، ولكن هذا المبدأ انقلب إلى ضده بعدئذ؛ حيث صار على النحو التالي: (كل من جد وجد )، و(كل من سار على الدرب وصل)، و(كل من جال نال)، و(من طلب العلا سهر الليالي)، وما أشبه بذلك.

من الجدير بالذكر أن كلاً من هذين المبدأين له محاسنه ومساوئه، فمبدأ القناعة والرضا بالنصيب يمنح الإنسان الطمأنينة النفسية وراحة البال، ولكنه من الجهة الأخرى يؤدي إلى ركـود المجتمع وضعف التطور فيه، أما المبدأ المعاكس له أي مبدأ ( من جد وجد )؛ فهو يؤدي إلى تحريك المجتمع وتطويره، ولكنه من الجهة الأخرى يجعل الإنسان شديد الطموح والتكالب والقلق لا يطمئن إلى شيء، ولا يرضيه حال.

كان الفرد العربي في العهود السابقة يتعلم مهنة أبيه في الغالب، ولا يطمح أن يكون أرفع من مستوى أبيه، وإذا شاء القدر أن يرتفع الفرد أكثر مما ينبغي له؛ صار الناس يذكرونه بماضيه الوضيع، وهو يحاول من جانبه أن يتنكر لهذا الماضي أو يتستر عليه، وهذا على النقيض مما اعتاد الناس عليه في هذه الأيام؛ إذ أصبح الفرد منهم يفتخر بأنه صنع نفسه بنفسه، وأنه كان في بداية أمره فقيراً أو وضيعاً .

و يمكن القول بوجه عام: إن النظام الطبقي كان في العهود السابقة مغلقاً، ولكنه انفتح على مصراعيه بعد تأسيس الحكومات العربية وفتح المدارس على نطاق واسع، على نحو ما ذكرناه، فقد أصبح ابن الـبـقـال أو العطار أو الحائك أو الحمال يطمح أن يدخل المدرسة؛ ليكون بعد تخرجه منها موظفاً في الحكومة، أي ( أفندياً ) مرموقاً يشار إليه بالبنان، وهنا ظهرت مشكلة لم يكن للناس عهد بها من قبل، وأخذت هذه المشكلة تنمو وتستفحل بمرور الأيام على حسب طبيعة الإنسان بوجه عام، وأنه إذا انفتح النظام الطبقي أمامه المبدأ القائل: (كل من جد وجد)؛ فإن طموحه وتهالكه على المكانة العالية لا يقفان عند حد، فهو كلما نال مكانة طمح إلى مكانة أعلى منها، وهو يظل كذلك راكضاً لاهثاً بلا توقف، حتى يدركه الموت؛ فيستريح ويريح .

تبين الآن علمياً أن مبدأ (من جد وجد) لا يصح إلا ضمن حدود ضيقة، فالإنسان في الواقع لا يستطيع أن يصل إلى ما يطمح إليه عن طريق الجد والمثابرة وقوة الإرادة وحدها، ولا بد أن تساعده على طموحاته مواهبه الطبيعية من جهة، وظروفه النفسية والاجتماعية من الجهة الأخرى، أما إذا كانت مواهبه أو ظروفه غير مساعدة له في ذلك؛ فإن الجد لا ينفعه إلا قليلاً، أو هو يضره من بعض النواحي، إن هذه الحقيقة العلمية لا يفهمها الكثيرون من الناس أو لا يريدون أن يفهموها ، وقد لاحظنا ذلك بوضوح عندما بدأ الناس يدخلون أبناءهم في المدارس على نطاق واسع، ويطلبون منهم أن ينجحوا جميعاً في دراستهم ، فإذا أخفق بعضٌ منهم فيها صار موضع تعنيف وتوبيخ من أبيه وأمه، وانقلب البيت عليه إلى جحيم لا يطاق .

إن البشر يتفاوتون في درجة الذكاء فيما بينهم، ويتفاوتون في جميع مواهبهم أو صفاتهم الأخرى، ففيهم المتفوق في ذكائه، وفيهم متوسط الذكاء، وفيهم الغبي والمتخلف؛ لذلك جميعهم لا يملكون إرادة لهم في ذلك، بل هم مخلوقون على تلك الصفات .

وهم إذا دخلوا المدارس في طفولتهم فلا بد أن يكون فيهم المتفوق في دراسته، والفاشل فيها قليلاً أو كثيراً، إني أتذكر تلك الأيام قبل عدة سنين عندما اشتد التهافت على المدارس، فكانت كل أم في المدينة أو القرية تريد من ابنها أن ينجح في المدرسة كما نجح ابن فلانة وفلانة، وهي تواصل لومه وتوبيخه في كل صباح ومساء قائلة له: (لماذا نجح ابن فلانة ولم تنجح أنت؟ وهل أحسن منك؟ وهل تنقصك عين أو خشم ؟)، وهو من جانبه قد يلوم نفسه على نحو ما تفعل أمه معه، وهو يكافح؛ لكي ينجح في المدرسة كما نجح ابن فلانة دون جدوى.

أعرف شاباً أصيب بالجنون من جراء توبيخ أمه له في كل صباح ومساء، فهو لم يكن يملك درجة كافية من الذكاء للنجاح في المدرسة كغيره من أبناء المحلة، وكان يبذل جهده بلا فائدة، وقد كان من الأصلح له أن يتوجه منذ طفولته نحو المهنة التي تلائمه، ولكنه كان مصراً على أن يكون ( أفندياً ) كما تريد أمه، وكانت عاقبته أن صار مجنوناً!

إن هذا الذي كان يجرب قبل عدة سنوات مضت ظل مستمراً حتى يومنا هذا، ولكن نطاقه قد اتسع وتبدل الطموح فيه من شكل إلى آخر؛ حيث كان طموح الجيل الناشئ قبل عدة سنين يقتصر في الغالب على نيل الوظيفة الحكومية والترقي فيها، أما الآن فقد أصبح الطموح متجهاً نحو الدراسة العالية ونيل شهادة الماجستير والدكتوراه .

كانت الحكومة في الماضي تواجه عبئا كبيرا من جراء الطلب المتكاثر على الوظائف فيها، ففي كل سنة دفعة جديدة من الخريجين الذين يطلبون الوظائف المناسبة لهم، وإذا عجزت الحكومة عن توفير الوظائف لهم؛ أطلقوا ألسنتهم صارخين ناقدين، إن المشكلة التي كانت تواجهها الحكومة في الماضي أصبحت وزارة التعليم العالي تواجهها الآن على نطاق أوسع وتركيز أشد، فهي تواجه في كل سنة عشرات الألوف من الطلبة، ويرغبون الدخول في الكليات التي يطمحون إليها، وليس في الإمكان تلبية طلباتهم جميعاً، فإن هي أرضت فئة منهم سخط عليها آخرون، إن هذه المشكلة لا نجد شبيهاً لها في البلاد المتقدمة؛ لأن الطلب على التعليم العالي هناك محدود جداً، ولا ترغب فيه سوى نسبة صغيرة جداً من المواطنين، ومن الممكن القول: إن هذا الوضع سوف نصل إليه في المستقبل القريب أو البعيد.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights