الحداثة الزائفة
عبدالله بن حمدان الفارسي
يروقني من لا يجيد التكيف ولا التعامل مع الزيف المشاعري، ولا الذي يمتهن ويتصنع ويمارس سلوكيات مزخرفة؛ لأجل الوصول إلى غايات ذاتية ليس جديرا بها، ولا الذي يتنكر لأصوله وعاداته وتقاليده لا سيما التي لا تتضارب مع القيم الحميدة، إن السجية المهذبة بالفطرة لا تنحنى إلا انحناءة سلام من أجل السلام، ولا تتجمل بمساحيق الكذب والنفاق، وإن تضورت جوعا، وجفت عطشا.
والنفس النقية الطاهرة لا تطأ لها قدم في وحل الدناءة، ولا خوض عراك مفتعل لأمور دنيوية دنيئة؛ الهدف منه وضع اليد على ما ليس لها، وليس بإمكانها هضم الغث أو استساغته من التصرفات، والأساليب المضللة مهما تم تبهيرها، وتزيينها، وطلاؤها بالثمين، فمن الحكمة أن نؤمن بأن احترام الآخرين وتقديس خصوصياتهم هو واجب مفروض علينا، لا تفضلا ولا منةً منّا عليهم ، ولكننا نجد في بعض من هم دون سقف المستوى الأدبي والأخلاقي من يحاول إقحام نفسه المتعرية من الحياء وفرضها؛ للوقوف دون كلل أو ملل على عتبات نفوس البشر؛ لسبر أغوار تفاصيل حياتهم الدقيقة، وكأنه وصي عليهم، وحشر أنفه فيما لا يعنيه، وإزعاجهم ، ثم نشر الغسيل بحجة التجفيف، بينما الحقيقة هي التشتيت والتبديد لكرامتهم وشؤونهم.
وهناك ممن يرقصون على حبال الدجل والتدليس؛ استهزاءً بالمبادئ والقيم، ضاربين بها عرض الحائط، ظنا منهم أن هذه التصرفات ستكون طريقا أسهل وأقصر لاحتلال قلوب الناس، وأيضا أيسر الصعاب لاعتلاء القمم، وهناك من يقلب صفحات حياته الخاصة، وما تحتويها بكل شفافية ودون حياء، مستدرجا صغار العقول لمتابعته؛ لزيادة رصيده الجماهيري.
هذه النماذج كثيرة يحتضنها المجتمع، غاضا النظر عن ممارساتها وتجاهلها أو بالأحرى التساهل معها، وللأسف فإن تكاثر هذه الفئة ونموها في تزايد؛ لوجود العناصر التي تعينها على ذلك لأسباب تبدو واضحة للعقل السوي، ترتكز على المادة دون الأخلاق، وللأسف تسهم بهذا التواطؤ في نشر يرقات الانحطاط السلوكي الضار في المجتمع، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، فهناك أيضا من يقوم بتصدير أفكار هؤلاء، وتلميع واجهاتهم الصدئة الخاوية وسمكرتها، لغاية في نفس كلا الفئتين.
إن تطور البلاد وتحسين إنتاجها وتثبيت ركائزها السليمة يتوقف على صلاح أبنائها، وغرس بذور الأخلاق والمبادئ الحميدة، ومن ثم تمكين كلمة (اقرأ) فيهم، وترسيخ معناها في عقولهم وقلوبهم، لتتم بعدها عملية التطوير والنماء بكل سهولة ويسر؛ ولكن ما نلمسه الآن مخالف لما هو مأمول ومرجو لاستخراج نشء يكون بإمكانه خوض غمار التحدي؛ لتأسيس مستقبل زاهر يؤمن به الرخاء والاسترخاء الشامل لبلده، لا أن يجرَّها للتعايش والامتثال للمسرحيات الهزلية التي يضج بها المجتمع في وقتنا الحالي، والتي يقوم بتأدية أدوارها مهرجون، هم للسذاجة أقرب منها للاستقامة والإصلاح، ولا هم بالجدارة التي تمكنهم من ترميم ما يفسده الدهر بقدر ما يكونون أداة اجتثاث للغرس الطيب، وتخريب للعقول الخصبة، وتحويلها إلى فيافي قاحلة.
إننا بحاجة ماسة إلى وقف هذه النماذج الشاذة، دخيلة السلوك والمبادئ؛ وذلك بالتدخل من قِبَل كل من يهمه أمر البلاد ومصلحتها، كل في مجاله؛ لتهيئة جيل النشء وتوسعة آفاقه المعرفية، وتوعيته بالتوجيه السليم المخطط له بعناية؛ للثبات على الفطرة الإنسانية وعفويتها؛ وإبعاده عن الغرائز السلبية التي لا يجني منها إلا طحالب سامة تدمر خلايا حياته، وتهد أركان بيئته، وكذلك عدم السماح لتلك الجذور السامة بأن تتسع رقعة نموها وانتشارها تداركا؛ بعدم نشر وبائها وتصاعد دخانها الضار، ومنع تفاقم سلبياتها في المجتمع، ومن يدَّعِ بأن هذه الممارسات والسلوكيات عادية وطبيعية، وهي نتاج العصرنة والتطور الذي يجتاح العالم نرد له ادعاءه هذا؛ بأن العالم فيه من المتناقضات والسلبيات ما لا يحصى ولا يعد، وليس كل ما تفرزه العصرنة هو صالح للاستعمال وسليم للاتباع، ومجتمعنا الإسلامي الحنيف اُختص بمقومات وأسس ومبادئ لا يمكن الحياد والتخلي عنها، بحجة الركض وراء ركب التطور (التهور)، وهو ما يجوز أن أسميه بذلك، وبعضهم يطلق عليه تطورا.