قِراءةُ الصَّمْتِ
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
قِراءةُ الصَّمتِ فنٌ ومهارةٌ، ولا يجيدُها إلا ذو بَصيرةٍ قبلَ البَصرِ، ومعَ مُعطياتِ الحياةِ العصْريةِ أصبحْنا في حاجةٍ ماسّةٍ إلى أنْ نُعيدَ ترتيبَ أوراقِنا مِنْ جديدٍ، فنتعلّم قراءةَ صَمْتِ أنفسِنا، وكلّ مَنْ حولَنا حينَ نَستشعرُ تلكَ اللحظةَ التي تأخذُنا بعيدًا بعيدًا، ونحنُ لا نمتلكُ تفسيرًا مُقنعًا لما يحدثُ في محيطِ تلكَ اللحظةِ التي سيْطرَ فيها الصّمتُ علينا أوْ على مَنْ حولَنا.
ولعلّ سؤالًا يَطرحُ نفسَهُ: أنحنُ بحاجةٍ ماسّةٍ لإدراك هذهِ المهارةِ؛ كيْ تُعينَنا في فكّ رموز تلكَ اللحظةِ التي خيّمَ فيها صَمتٌ علينا وعلى آخرينَ ؟
ومعَ كثرةِ أعباءِ الحياةِ، وانشغالاتِنا بشؤونها وهمومِها نجدُ أنفسَنا– دُونَ أنْ ندري – نلتزمُ الصّمتَ أحيانًا في يومِنا، ولوْ قليلًا، وتمرّ أمامَنا أحْداثٌ متنوعةٌ ونحنُ نشاهدُها في صَمتٍ، ورُبَّما نَزلَ بأحدِنا أمرٌ ، ويحتاجُ حُلولًا، أو إبداءَ رأيٍ ما، فنجدُ أنفسَنا سبحْنا في عالمٍ آخرَ، هذا العالمُ مِنَ الْعوالمِ الخفيَّةِ التي مَكنونُها في أَعْماقِ كلٍّ منّا، وهو ما يَدفعُ صاحبه إلى مرحلةٍ تاليةٍ، ألا وهي مرحلةُ الشّرودِ الفكريّ.
وفي إطلالةٍ سريعةٍ على نماذجَ مِنْ حياتنا؛ لنرى كيفيّةَ قراءةِ الصّمتِ لدى الآخرينَ، وقراءة ذلكَ في ضوءِ مُعطياتِ البيئةِ المحيطةِ بمنْ في مثلِ هذه اللحظةِ.
فمثلًا نجدُ هذا في أسرتِنا يحدثُ كُلَّ يومٍ في أوقاتٍ متنوعةٍ، ولو نُتابعُ قراءةَ وجوهِ مَنْ حولَنا داخلَ الأسرةِ، ونهتمّ بحالاتِهم سَنجدُ أمورًا تحتاجُ دراسةً وانتباهًا، فأحدُ الوالديْنِ ألمَّ بهِ شيءٌ ما مِنْ أمورِ الحياةِ، ومنشغلٌ بهِ، وهو في أوقاتٍ مختلفةٍ نراهُ صامتًا، ويحتاجُ مَنْ يفتحُ لهُ هذا الصمتّ، ويتغلغلُ في أعماقِه؛ ليدركَ مكنونَهُ، بلْ أذهب أبعدَ مِنْ ذلكَ، فأقول: ربما كان الصمتُ نتيجةَ انشغالِ الآخرينَ عنهُما، ولا أقولُ: الانشغال بأمورِ الحياةِ، ولكن – للأسفِ – يمكنُ أنْ نكونَ معًا في أسرةٍ واحدةٍ، وفي مكانٍ واحدٍ، وفي غرفةٍ واحدةٍ، لكنّ التعلّقَ بوسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ كثيرًا أفسدَ التواصلَ الأسريَّ الذي أضعفَ تلك العلاقةَ، ومِنْ ثَمَّ كانَ حالُ أحدِ الوالديْنِ هكذا، ليسَ لأنّهُ يحبُّ الصّمتَ، ولكن لانشغالِ غيرِه عنْهُ، وسُرعانَ ما نجدُ انفراجةً عندَما يُبدأُ حديثٌ مع أحدِهما؛ فيتلاشى الصّمتُ الذي لمْ ندركْ أبعادَه وآثارَه السّلبيةَ فيمنْ حولَنا.
والأمرُ كذلكَ مع الزوجةِ خاصّة إذا كانتْ لا تعملُ، وهي في حاجةٍ ماسّةٍ لمنْ يستمعُ إليها وقتًا ما بعدَ أحداثٍ متصارعةٍ هالكةٍ صباحًا ومساءً، وإذا لمْ تجدْ مَنْ يُشاركُها همومَها الحياتيةَ كلَّ يومٍ، ويستمعُ إليها فسوفَ – لا محالةَ – يداهِمُها صَمتٌ بصورٍ عديدةٍ، وقدْ هاتفتْني يومًا ما امرأةٌ انتابها ضيقُ نفسٍ وملل بسببِ عدمِ انتباهِ زوجِها لها في تربيةِ أبنائِهما، وتركَ تبعاتِ الأمرِ لها وحدَها، والأبناءُ في مراحلَ عمريةٍ مختلفةٍ، وأتذكرُ أنها قالتْ: إنّها كلّ يومٍ – في أوقاتٍ متعددةٍ – تجدُ نفسَها صامتةً شاردةً كثيرًا دونَ إحساسٍ من زوجِها بما عندَها خاصّةً عندما يكونُ موجودًا معهمْ داخلَ الأسرةِ، لكنّهُ منشغلٌ بأمورهِ الخاصّةِ، بلْ ويبدأُ يقصّ عليها حكاياتٍ ورواياتٍ عمّا حدثَ معهُ في هذا اليومِ، ويريدُ منها أنْ تستمعَ إليهِ في إنصاتٍ تامٍّ دونَ أن يُمهلَ نفسَهُ قليلًا؛ للاستماع إليها، ولما حدثَ معها في يومِها، وسُرعانَ ما تنمو فَجواتٌ أسريّةٌ بينهُما قدْ تكونُ عواقبُها غيرَ محمودةٍ، وكنا في غنىً عنْ ذلكَ لوْ أدركنا أوقاتَ الصّمتِ التي قد تحلّ بها، ونعمل على قراءتها جيدًا، وإخراجِها مِنْ هذهِ الأوقاتِ بكلِّ حُبٍّ وابتهاجٍ.
ويومًا ما قالَ لي أحدُ أصدقائِي: إنّني أجعلُ لزوجتي ساعتينِ كلَّ يومٍ أستمعُ إليها في هدوءٍ وهيَ تتحدّثُ، وأُبدي لها اهتمامًا بما تَقولُهُ، ولوْ كانَ مُخالفًا رأيي، ولما سألتُه لماذا تفعلُ هذا ؟ أجابَ: كيْ أكونَ مُتنفّسًا لها، فكمْ منْ أمور ٍكثيرةٍ كانتْ بينَنا، وطُويتْ بسببِ ذلكَ!
وحينها قُلتْ: رَحِمَ الله أزواجَا عُقلاءَ جَعلوا لزوجاتِهم في قلوبِهم مَكانًا ومَكانةً.
وفي همسةٍ حنونةٍ، وقراءةٍ هادئةٍ تنفرجُ الأساريرُ، وبفضلِ هذا الوعي نقدّمُ حلولًا لمشاكلَ أسريّةٍ كثيرةٍ قدْ تكونُ قراءةُ الصَّمتِ هي المدخل لها، وفكّ رموزها.
وكذلك الأمرُ نجدُه مع أبنائِنا وبناتِنا وهمْ في مراحلَ تعليميةٍ مختلفةٍ خاصةً المراحلَ النهائيةَ، وقدِ انشغلوا كثيرًا بأمورٍ حياتيةٍ – قدْ نَظنُّ أنها ليستْ مُهمّةً – مع دراستِهم؛ وذلك لاختلافِ حياتِهم في كثيرٍ مِنَ الأشياءِ عنْ حياتِنا، وظهور كثيرٍ مِنْ تقنياتِ التكنولوجيا المعاصرة التي تتيحُ لمنْ يستخدمُها أنْ ينعزلَ عنِ الآخرين في صمتٍ تامٍّ في أوقاتٍ مختلفةٍ، ولا يمنعُ هذا من كثرة مشاكلِهم التي يُعانون منها، وكنّا سَنساعِدُهم في حلِّها لوْ كُنَّا قِريبينَ مِنهمْ، وشعرْنا بهِمْ، وقرأْنا صمتَهُم الذي أصبحَ حالةً مرضيّةً عندَ بعضِهم.
فكّر قليلًا ستجدُ أنّ الله تعالى اختصّك، ووهبك هذا الوعيَ؛ لتمتلكَ ناصيةَ قراءةِ صَمتِ الآخرينَ؛ فتمسح صمتَ يتيمٍ نظرَ إليك، ورأى فيكَ أباهُ، وتخفّف آلامَ مريضٍ أنهكَهُ مرضُهُ، وهوَ يراكَ صحيحًا، وتلبــــّي حاجةَ جارٍ لكَ منعَهُ حياؤُه أنْ يطلبَ منك شيئًا؛ فقرأته في صمتهِ، أو شعرْتَ بحبيبٍ لكَ يأمُلُ فيكَ خيرًا، وكلَّما وقعتْ عيناكَ عليهِ وجدتَهُ غارقًا في صمتِه مُنتظرًا منكَ الإحساسَ به في ضيقِه وحاجتِه، لكنَّ حفظَهُ ماءَ وجهِه قدْ منعهُ مَذلَّةَ السّؤالِ.
نماذجُ كثيرةٌ وعديدةٌ نُقابلُها كلَّ يومٍ غارقةً في بحارٍ منْ صَمتٍ، وطوقُ نجاتِها في يديكَ إنْ أوليتَها اهتمامَك، وكشفتَ نقابَ صمتِها؛ فقرأتَهُ بوعْيٍ وإدراكٍ؛ فأثمرَ خيرًا، ويكفيكَ أنكَ كنتَ سببًا في التَّخفيفِ عنِ الآخرينَ؛ فتنالك دعوةُ أحدِهِم قدْ تكونُ خيرًا لكَ في الدنيا والآخرةِ.
وخلاصةُ القولِ: لِنقرأْ صمتَ الآخرينَ قبلَ أنْ يتكلَّموا، وهذا هو الأجملُ والأمثلُ.
فقديمًا قالوا:” إذا لمْ تَسْتَطِعْ أنْ تَقْرَأَ صَمْتَ أَخيكَ، فَلْنْ تَسْتَطيعَ أنْ تَسْمَعَ كَلامَهُ “، وما أجملَ هذهِ العبارةَ ! وما أروعَها ! ونحنُ في أشدِّ الحاجةِ إليها في شؤونِ حياتِنا، وفي كثيرٍ مِنْ تعامُلاتِنا اليوميّةِ، وهذهِ القراءةُ لا يمتلكُها إلا مَنْ أُعطيَ قدراتٍ فائقةً؛ حيْثُ البصيرةُ تُنير لصاحبِها ما لمْ يرَهُ البصرُ.
وكمْ مِنْ مواقفَ صمْتٍ واجَهتْنا في حَياتِنا دُونَ أنْ نُعيرَها اهتمامَنا، ولمْ تنلْ منَّا حظًّا في قراءَتِها، ومرَّتْ مِثلَ غيرِها، وأُغلقتْ صفحاتُها، وأَصبحَتْ نَسْيًا مَنْسيًّا، وقلْنا: ليتَنا أبْصرْنا قِراءةَ صَمتِها!