اللَّحظاتُ الفارقةُ بناءُ الإنْسان وأملُ الأوطان
د. محمد عزيز عبد المقصود
أستاذ لغويات مساعد بكلية اللغة العربية
جامعة السلطان عبد الحليم معظم شاه الإسلامية العالمية ماليزيا
الإيميل /mohamedaziz@unishams.edu.my
mohammadaziz1974@yahoo.com
ثَمّةَ فرقٌ كبيرٌ بين لحظاتِ الفراقِ واللّحظاتِ الفارقةِ، فكلٌّ منَّا يمرُّ في حياتِه بلحظاتِ فراقٍ متنوعةٍ قدْ تكونُ فراقًا لحبيبٍ، أو لقريبٍ، أو لصديقٍ، أو لعملٍ، أو لأمرٍ ما ألمَّ به .. إلخ، وقد تكونُ لحظةٌ من هذه اللّحظاتِ فارقةً في حياةِ الإنسانِ، وقد لا تكونُ؛ لأنَّ اللّحظاتِ الفارقةَ عامّةٌ وشاملةٌ؛ حيث يمكنُ أن تكونَ لحظاتِ لقاءٍ مُشْبَعةً بالمرحِ والأملِ والسَّعادةِ، فمثلًا تكون لحظة زواجٍ، أو ميلاد ابن، أو تحقيق نجاح في عملٍ ما، أو تحقيق هدفٍ من جملة أهدافٍ في الحياة .. إلخ؛ لذا فاللَّحظات الفارقة تشملُ لحظاتِ الفراقِ بما فيها من آلامٍ وأحزانٍ وأشجانٍ، ولحظاتِ السعادةِ بما فيها من فرحةٍ وبهجةٍ وسرورٍ.
ولا شكَّ أن كلَّ واحدٍ منا في حياته يعيشُ لحظاتِ فراقٍ ولحظاتِ لقاءٍ وتآلفٍ، لكنْ هل تَبَلْورت لحظةٌ ما فأصبحتْ لحظةً فارقةً في حياتنا ؟
بينَ حينٍ وآخرَ نحتاجُ إلى إعادةِ ترتيبِ أوراقِنا في الحياة، فننظر كيف نرسُم مستقبلَنا بوعيٍ، وعيونٍ مبصرةٍ تُدرك أبعادَ اللحظاتِ الفارقة التي تؤثّر في بناءِ شخصيّاتِنا، وتغيرُنا نحوَ الأفضلِ؟
فكمْ من أحداثٍ جليلةٍ فراقًا كانتْ أو لقاءً هي علاماتٌ فارقةٌ في حياتنا؛ فأثمرتْ خيرًا، وغيّرت – ليسَ فقطْ – فردًا، أو أسرةً، بل مستقبلَ وطنٍ كاملٍ.
فهلّا استوْقف كلٌّ منا نفسَه؛ لينظرَ كمْ منْ لحظاتٍ مرّتْ في عمره كانتْ فارقةً ! ألم تقابلْنا لحظاتٌ في حياتنا تمنَّينا فيها ألا تتكرّر، ولحظاتٌ من الماضي الجميلِ تمنّينا فيها ألا تنتهي ؟
كمْ من آلامٍ مرّتْ بأوطاننا، وشعرنا فيها بتلاطمِ أمواجٍ عاتية، وخشينا فيها على أوطاننا رياحًا هاوية ! ثُمَّ هَبّ آباؤُنا وأجدادُنا، ووقفوا وقفةَ جبالٍ شامخةٍ في لحظاتٍ فارقةٍ أدركوا كُنْهَها؛ فعزّوا، وعزَّتْ بهمْ أوطانُهم.
لنبدأ من الآن الانتباه للحظاتِ الفارقةِ في حياتنا سالفةً كانت أو مستقبلةً، وسنجد متغيراتٍ كثيرةً على مدارِ عمرِنا قدْ أثّرت فينا، وغيّرت، وستغيّر حياتَنا، وساعدتنا في عبور منزلقاتٍ كثيرةٍ قدْ ظننا أنّ الحياة لا تكونُ كما أردنا، لكن بفضلِ الله – عزّ وجلّ – ثم بفضل إرادتنا وعزيمتنا وإيماننا الراسخ بأنّ اللحظاتِ الفارقةَ تُعدُّ من عوامل بناء شخصياتنا، ورسم مستقبلنا، استطعنا التغلُّب عليها، ومن ثمّ استنشاق عبير فجرٍ مشرقٍ كانتْ بدايتُه لحظةَ فراقٍ مؤلمةٍ، أو لحظةَ لقاءٍ مُفرحةٍ، وبفضل الثبات الفكريّ، والاستقرار النفسيّ استطعنا تحويلَها إلى لحظةٍ فارقةٍ غيّرتْ مَعالمَ حياتِنا كلِّها إلى أفضل حياة.
وإنْ ذهبنا أبعدَ مِنْ ذلك، فقلنا: إنَّ كلمةً لا نُلقي لها بالًا يُمكنها أنْ ترفعَ أشخاصًا ، وتحطَّ آخرين، ونحن لا نُدرك أبعادَ ذلك، وهذا يحدثُ معنا كلَّ يومٍ، فعندما نتعامل في أسرتِنا الصغيرةِ يحدثُ مثل هذا خاصّةً مع أولادنا، فعندما نُثني خيرًا على أحدِهم يدفعُه هذا إلى الجدِّ والاجتهادِ، والتحوُّلِ من حالٍ لأفضل حالٍ بسبب كلمةٍ.
ويتضحُ الأمرُ عندما نُثني على عملٍ مفيدٍ قامت به الزوجة؛ فنمتدحها، بكلماتٍ رقراقةٍ؛ مما يؤدّي إلى أنْ تملأ الفرحةُ عيونها، وينشرحَ بالرّضا صدرُها، ويمتلئَ بالحبِّ قلبُها تقديرًا لكلمة زوجها؛ فتزداد المودةُ والرحمةُ بينهما، ومِنْ ثَمَّ الاستقرار الأسري الذي نَنشدُه جميعًا.
والأمر كذلك في أيّ مؤسسةٍ، فعندما يُؤدّي موظفٌ عملًا ما أداءً مُتقنًا؛ فيُثني عليه رئيسه بكلمة طيبة، أو يُقدّم له شهادةَ شكرٍ وتقديرٍ؛ فيسعد بذلك أيّما سعادةٍ، وتجدُ الكلمةُ طريقَها إلى قلبِه، ومِنْ ثَمَّ يحرصُ الجميعُ على أداءِ أعمالهم بإتقانٍ وإحكامٍ؛ كيْ ينالوا هذهِ المكانةَ والتقديرَ مستقبلًا؛ لذا يعمُّ الرخاءُ والتقدُّمُ في هذه المؤسسةِ.
هذهِ نماذجُ – وغيرُها كثيرٌ – نحياها كُلَّ يومٍ، ونشاهدُها في مجتمعاتِنا، ونرى أثرَها فيمنْ حولَنا دونَ أنْ نوليَها اهتمامَنا، ونستشعرَ أهمّيتَها، وقدرتَها في بناءِ الشّخصيّاتِ، وتحولِهم في حياتِهم نحوَ الأفضلِ بسببِ كلمةٍ طيبةٍ قيلت في لحظةٍ، وللكلمةِ أثرُ السّحرِ، ولنتخيلْ معًا لو قلنا لهؤلاء كلمةً مؤلمةً، أتكونُ حالاتُهم مثل وقعِ الكلمةِ الطيبةِ؟ شتّان ما بين البناءِ والهدمِ، فطريقُ البناءِ مُعَبّدٌ لمنْ يُدركُهُ في لحظةٍ فارقةٍ.
والخلاصة .. لا نَستهينُ بأيّ لحظةٍ تمرّ علينا في حياتِنا، فقدْ تكونُ هذه اللّحظةُ بما تحملُه علامةً فارقةً – ليسَ فقطْ – في حياةِ الأفرادِ بلْ في حياةِ الأوطانِ، وكثيرةٌ هذه اللّحظات لمنْ يُوَفَّقُ لها.
فالذين بنوا أنفسَهم وأوطانَهم عَرَفوا أهميّة جعْلِ لحظاتِ الفراقِ واللقاءِ لحظاتٍ فارقةً، فهذهِ قضيَّتُهم التي شُغلوا بها مَدى عُمرِهِم؛ فكانوا، وكانتْ حياتُهم.
اللَّحظاتُ الفارقةُ تَبني الإنسانَ الذي يُسهمُ في بناءِ الأوطانِ، ومِنْ ثمَّ تكونُ النهضةُ والرقيُّ والحضارةُ، فلنكنْ لَبِنةً مهمّةً في بناء أوطاننا؛ فتسعد بنا أمتُنا وعالمنا، ولتكنْ بدايتُنا لحظةً فارقةً، ومِنَ اللّحظةِ يُولدُ الأملُ.