الثلاثاء: 7 مايو 2024م - العدد رقم 2131
مقالات صحفية

الحساب بعدين

أحمد بن سليم الحراصي

افتتح أبواب دكانه اليوم، في مشروعه الأول من نوعه في قريته التي عاش فيها طويلاً، القرية الخاوية على عروشها التي احتاجت إلى سنين طوال بحثا عن من ينقذها من هذا الخراب والخلوّ من الخدمات وعصر الحداثة، صار اليوم هو منقذها الوحيد في إنشاء هذا الدكان الذي أطلق عليه اسم القرية التي أحبها، كان دكاناً بسيطاً كبساطة القرية وأهلها، لم يكن الأمر عليه سهلاً حتماً في أن يُوجِد هذه البقالة، فقد استغرقه الأمر سنوات تُحسب له في ادّخاره لأموال خاصة لهذا المشروع البسيط لأجل هذه القرية وأهلها فقط، ولكي لا يُكلَّفوا عناء أنفسهم لمسافات طويلة لشراء أغراض قد لا تستحق تلك المسافة التي يقطعوها، ها هو اليوم يُحقق مرادهم وأمانيهم البعيدة رغم كدحه واشتغاله خارج ساعات العمل لكنه أمرٌ استحق العناء، فكلّ ذلك لأجل القرية لا يساوي شيئاً ولا يُكلِّفه مثقال ذرة.

الجميع كان يعرفهم ويعرفونه، لم يكن هناك أيّ أحد غريب، وإن كانت هذه المعرفة تجري فيما بينهم فهذا يعني أن الأمر ليس إشكالاً وليس هناك ما هو رسميّ، فالتبضّع أصبح ساري المفعول حتى دون أموال بحاجة إلى تسديدها في الوقت نفسه، (فالحساب بعدين) لم تكن جملة من عبث، بل هي ما تعنيه العلاقة الأخوية بين الشاري والمشتري، هذا الحساب الذي يأمل فيه صاحبه في أن يُسدد عند نهاية الشهر وهو شهر الراتب، ذلك الراتب (الكسيحة) الذي إن بقيَ فإنه لن يصل إلى صاحب الدكان قبل أن يتعثر (بعكازه) لظرف طارئٍ ولذا سيظل يتوعده بأنه سيسدد له في الشهر القادم، وما بين شهر وآخر يبقى الوعد معلقاً دون شيء، فتضيع العلاقة فيما بينهم وتتقلب من حين لآخر بحثاً عن من ينقذها من براثن الضياع، فيظن صاحب الدَّين أن صاحبه لا يحتاج إلى هذا الحساب فعلاقتهما تكفي في أن تصمد أمام هذا الحساب لأشهر ،ورغم ذلك فأن في صاحبه عزّة لا يستطيع أن يفهمها هو تجعله لا يستطيع إحراج صاحبه في طلب الحساب، فتتبدد أحلام التجارة وتشيب عنفوانية التاجر الشاب فتتغير جملة (الحساب بعدين) إلى (الحساب في يوم الحساب) وهو الحساب الذي لا يأمله ولن يتحمله الكثيرون.

الحساب بعدين، جملة توغلت في العمق واكتسحت عوالم الناس البريئة وحوّلت الناس البسيطة إلى ارتكاب الخطأ تلو الآخر ليس بحولٍ منهم ولا قوة ولكن لأنهم وجدوا أنفسهم أمام متاهة سهّلت لهم الدخول ولكنها أعاقت خروجهم، فتعثروا من حجر لحجر آخر دون أن يرَوا بصيص أمل يدلهم نحو المخرج، وهنا أستذكر قصة سمعتها من أخي حكاها لهم أحد الأساتذة في المدرسة ورغم أن القصة فيها من الخيال والأساطير لكنها تُمثل شيئاً من هذا الواقع، فقد قال لي بأنه في قديم الزمان كان العمانيون كعادتهم يشتغلون ليلاً في ريّ مزارعهم، وكأيّ رجل، كان بطل قصتنا يسقي مزرعته كعادته ليلاً، وفي يوم من الأيام سمع صوتاً في الجانب القريب من مزرعته كان الصوت الذي يسمعه يتردد في أذنه بـ(الحساب بعدين) فاقترب رويداً رويداً وإذا به يرى أناساً مجتمعون وكأنهم في سوق يزايدون على بيع اللحوم، لذا فكر بالشراء منهم، فأخذ حصته التي أرادها وحين همّ بالدفع أخبره التاجر بأن (الحساب بعدين، الحساب بعدين) وأخذ يرددها فقال: ما دام الأمر هكذا إذاً ، فالحساب بعدين مثلما تريد فذهب إلى بيته ووضع اللحم في مكان ما وعندما استيقظ صباحاً، استغرب ممّا رأته عيناه حيث وجد اللحم ممتلئاً بالكثير من الحشرات، وقد تغير حاله، فتساءل في نفسه، ما هذا اللحم؟ لعمري لم أرَ له مثيلاً من قبل!

فقرر الذهاب إلى الباصر (حكيم القرية)، أخبره الحكيم بعد إمعانه النظر والتفحص كثيراً بأن هذا اللحم ليس لحما عاديا ولكنه لحم بشري، فأخبِرني ما قصته؟ وبعدما أخبره بكامل ما جرى، أخبره الحكيم بأنه إن كانوا قد أخبروك بأن الحساب بعدين، فهذا يعني أن هناك حساباً بحاجة لتصفيته ستسمعه منهم في الأيام القادمة وعليك أن تكون حذرا، ثم بعد يوم من الشراء، أتى إليه شخصان يسألانه إن كان يعرفهم فأجابهما بالنفي، ثم أخبراه عن قصة الشراء في المزرعة وأنه كان الحساب بعدين ولذا هما اليوم قادمان لتصفية هذا الحساب، ثم أردف قائلاً: نعم تذكرت فبكم أدين لكما؟
إلا أنهما أخبراه بأن الحساب ليس نقداً وإنما يريدان شيئا آخر وحسابهما يجب أن يكون لحماً بشرياً، فخيراه بينه أو أحد أبنائه، فخاف الرجل على نفسه وأوجس منهم خيفة فقاطعوا هاجسه هذا بأن أعطوه مهلة لا تتعدى يومين للتفكير في هذه المسألة وعليه حينها أن يعلمهما وأن يُجهِّز لهما ما أراداه.

وبعد يومين من التفكير والخوف فيما يجب أن يفعله ويُخلِّصه من هذه المصيبة التي وقع فيها، قرر الرجل أن يفتدي نفسه لهما دون أبنائه وعندما وصل لهما وأخبرهما بأنه حسابهما، تفحصاه قليلاً فرأوا أنه واهنٌ وضعيف نتيجة إضرابه عن الطعام، فاستصغراه وأخبراه بأنه ليس أهلاً لدَينه، لذلك كان عليه أن يفتدي بأحد أبنائه ممن يمتلك جسماً مليئاً باللحم،ثم أخبراه بأن الموعد بعد يومين، يجلب ابنه ليتسلق نخلةً ما وهذه النخلة سيتواجدان هما هناك، أما أحدهما فسيكون كشوكة تطعن قدم ابنه ليسقط دمه أرضاً فتمتصه النملة وهي صاحبه المتحول إلى نملة وبالتالي يتم تصفية الحساب بسحر ابنه وأكله ثم بيعه في المزاد لاقتناص فريسة أخرى، فهل سيخضع لذلك؟
بالطبع لا، فمن ذا الذي تُجيز له نفسه في التضحية بابنه؟ لذا رأى بأن يرجع إلى الحكيم ليخبره بالقصة، فكّر الحكيم قليلاً ثم أخبره بأن يأخذ أحد أبنائه وأن لا يخبره بالقصة لكي لا يرفض وتتأزم المشكلة، ثم قال له: عندما يتسلق ابنك النخلة كُن قريباً، تطعنه الشوكة أولاً ثم يصرخ فتسمعه فتهبّ لنجدته مسرعاً فتقتل النملة قبل أن تمتص دمه ثم تُحرِّق الشوكة وهكذا تنتهي صنعة السحرة ولن يفلحوا في سحر ابنك، وفي الصباح فعل مثلما قال له الحكيم، قتل النملة وحرق الشوكة التي دلَّه عليها ابنه، وانتهت فترة حرجة من الخوف والألم.

هذه الحكايات جزء من واقعنا الذي نعيشه، فالحساب بعدين تُكلفك الكثير من المال وأنت لا تدري بكم تدين لصاحب الحساب ويوماً بعد يوم وأنت ما تزال في حالك من الأخذ حتى تتفاجأ آخر الشهر بأن دينك كبير دون دراية منك فلن تستطيع تسديده، تخضعك للمساءلة وتجعلك في دوامة من القلق والخوف، فلا تقل الحساب بعدين وأنت لا تستطيع دفعه، خذ ما استطعت وادفعه في الوقت نفسه ولا تثق بجملة الحساب بعدين ، فهي عبارة خطيرة لا يتحملها البسطاء، تأخذهم إلى ملذات الدنيا وتنسيهم ما كان يجب أن يتداركوه ثم عندما يأتي يوم الحساب، تهوي بهم إلى غيابة الجُب وتُغرقهم فيها.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights