2024
Adsense
مقالات صحفية

ليلة في إعصار شاهين

هلال بن حميد بن سيف المقبالي

لم أكن أتوقع أن أعاصر في حياتي مثل تلك الليلة، وأعيش أحداثها، وأروي قصتها؛ كانت ليلة الرعب والخوف التي مرت علينا بتاريخ 3/10/2021 م ، والتي لم أعش مثلها طوال سنوات عمري الذي مضى؛ ولا أعتقد أنني سأعيش لأشاهد مثل تلك الليلة، ولكن مشيئة الله وقدرته، قدّرت لي أن أعيش تلك الليلة بتفاصيلها..

بدأ ذلك اليوم (الأحد) بالأمطار الخفيفه، مع نسمات هواء خفيفة، والتي كانت مصدر فرح وبهجة لنا، بعيدًا عن ما نسمعه من تحذيرات، وما لبثت هذه المتعة إلا أن تزول فزادت شدة الهطول، وزاد معها هرير الرياح، مستمرا بلا توقف من بعد غروب الشمس و حتى منتصف الليل، بعدها هدأ هرير الرياح وكأنها تأخذ استراحة بعد عناء دام أكثر من خمس ساعات، لتبدأ هذه الرياح من جديد وبأشد قوة مما قبل. أحسست حينها أن ما على الأرض سيُقتلع؛ رأيت النخيل وهي تنحني راكعة لتعود مرة لاستقامتها مع كل حركة للرياح، قبل أن تسقط أرضًا بعد طول مقاومة، أما الأشجار فمن شدة الرياح تعرَّت من أوراقها قبل أن تُقتلع من جذروها مفارقةً أرض احتضنت تربتها لسنوات.

لم أنم تلك الليلة، _ و لست الوحيد الذي لم ينم فكان جميع من في شمال الباطنة مستيقظًا _ من هول الحدث و من رعب الموقف؛ تجمَّعنا أنا و عائلتي في بلكونة المنزل تاركين الغرف، خوفًا من اقتلاع النوافذ أو تكسرها، و هروبا من الماء الذي تخلل عبر النوافذ ليملأها، تجمعنا، يتملكنا الخوف، والرهبة من شدة ما نسمعه ونشاهده، مسبحين و داعين الله عز وجل أن يلطف بنا و بالعباد والبلاد، من عظيم ما نراه، ونحن نقرأ ما تيسر من القرآن. نسمع صَوت الرياح يزداد هديرًا مرة تلو الأخرى، وكأنها الشياطين تطير، أصوات غريبة تتخلل مسامعنا وكأن أحدهم يستغيث ويصرخ، أصوات لا يتخيلها أحد مهما وصُفت له، إلا من استمع إليها، و عاشها، وكلما زادت قوة الرياح وشدتها زاد تطاير الأدوات من بيتي و بيَوت جيراني ، فتارة نشاهد خزان الماء وتارة تمر علينا ألواح الألمنيوم وغيرها من المواد غير الثابتة، وأصوات الحيوانات بمختلف أنواعها أختلطت مع هرير الرياح ليشكلان مزيدًا من الرعب، والخوف وكأن ليلة المحشر قد حانت.

قبيل الفجر بساعة تقريبًا، خفت حدة العاصفة و هدأت ثورة غضب الرياح التي كانت تنهش من كل شيء تطاله، و انخفض معدل تساقط المطر، مواصلاً هطوله برقة متناهية حتى الثامنة صباحًا من يوم الأثنين 4/10/2021‪ م، ومن شدة التعب الكل نام على جلسته التي كان عليها..
لتشرق شمس ليوم آخر جديد ليس كأي يوم مررنا به، كان يومًا مختلفًا ؛ جاز أن نقول فيه :” الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا” يوم تغيرت فيه ملامح بعض الأمكنة، و تلاشت معالم واضحة. أخذت جولة حول المنزل _ ولله الحمد_ لم أتضرر كثيرًا، ولم أفقد أحد من عائلتي وهذا فضل عظيم ولله الحمد، ولكن المياه غمرت المكان حول المنزل، من كثرة الامطار التي نزلت.

خرجت بسيارتي في شارع غمرته المياه وكأنه مجرى لوادٍ، او كنت أظنه كذلك، شاهدت ما خلفه (شاهين) في قريتي. شاهدث الكثير من جدران المنازل سقطت وتطايرت مظلات السيارات، والأبواب اقتلعت بعضها وصل الشارع والبعض منها تجاوز الجهة الأخرى من الشارع، نوافذ تهشمت، و بعض المزارع أمتسحت هويتها وكأنها لم تكن مكاناً عامرًا من قبل، فقد تدمرت بشكل كلي. لم يطل تجوالي أكثر من ستة كيلو مترات ذهابًا وإيابًا، فقد قطع مساري من جهة الغرب مجرى حديث للوادي لم يكن موجودًا من قبل، ومن الجهة الأخرى (الشرق) منعتني النخيل والأشجار التي أعاقت حركة المرور، و كان الكل واقفًا امام منزله متحسرًا لما يراه، و كأنهم فاقوا من حلم عاشوه ليلة الأمس، والكل سكينة وهدوء مرددين “الحمدلله”، “قدر الله وما شاء فعل”، لتسمع بعد سكون صوت المناشير و هي تقطع الأشجار والنخيل المتساقطة فوق الجدران والمظلات، و المنازل، و البعض يسحب ما نفق من الحيوانات من تحت أنقاض زرايبها.

عشنا تلك الليلة و الأيام التي تلتها أحلكها لا كهرباء ولا ماء، وحتى شبكة الاتصال انعدمت، اتصالات وبيانات، أصبح الكل يتصل ليطمئن على أهله وذويه، بعد تلك الليلة، ولكن تعذرت أسهل الوسائل والسبل (الاتصال)، لتعود الشبكة بعد ثالث يوم من انقطاعها، يليها الماء في اليوم السابع وبعدها الكهرباء في اليوم التاسع، _ هنا أتكلم عن قريتي_ لتعود بعدها الحياة كما كانت شيئًا فشيئًا.

كانت ليلة للتاريخ تسجل بكل تفاصيلها ليلة “إعصار شاهين” الذي انقض بمخالبه الجارحة ليمزق السكينة والهدوء لسكان الباطنة الآمنين، ليجد جميع العمانيين في تلاحم و تعاضد وتكاتف؛ حكومة وشعبًا. لينحصر و هو يشاهد هذا التآزر والتعاضد العظيم و يعلن للعالم بأن عُمان نبض واحد و أجساد بروح واحدة، وهذه قصة أخرى سنحكيها للتاريخ.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights