مقال : عالم الصمت
صالح بن خليفة القرني
جلست مرةً منذ ردح من الزمن في إحدى شعاب قريتي الوادعة لأناجي الجبال وأهمس للصخور بيد أنها لم تحفل بي كررت الهمس ولا مجيب استجمعت قوتي وصرخت بكل ما أوتيت من صوت رخيم فلم أبلغ حينها مبلغ الرجال بعد، فإذا بالجبال تتقاذفه ليعود صداه أذهلتني التجربة رغم أنها ليست المرة الأولى فكثير ما كنت أهرع للجبال ربما لأنها أقرب لمنزلنا من أقرب جار.
حين أدركت أن الهمس لا يجدي نفعاً لزمت الصمت، فإذا السكون يخيم على المكان حتى لتكاد تسمع صوت تعثر النمل بحبات الرمل امتلأت نفسي وجلاً فلم أعد أسمع شيئاً وكأنني بلا سمع انتابني القلق وركضت إلى بيتنا لا ألوي على شيء بدأ الخوف ينقشع من صدري شيئاً فشيئا حين سمعت أنفاسي وصوت ارتطام رجلي بالأرض.
استدعيت هذه الذكرى حين التقيت بإخوة وأخوات من ذوي الإعاقة السمعية في دورة لغة الإشارة والتي تنظمها الجمعية العمانية لذوي الإعاقة السمعية بمقر جمعية إحسان حاولت أن أغوص في ذواتهم وأتقمص معاناتهم بتصور أن أعيش في صمت مطبق فاكتشفت في تجربتي القصيرة تلك عالماً كنت أشاهده من بعيد دون محاولة الاقتراب منه ومعرفة كنهه خوفاً من جرح مشاعرهم وحذراً من التعاطف الذي لا يفضلون فقد كنت شديد الحذر حينما ألتقي بأصم خوفاً أن أستخدم إشارة لا تناسبه فأتسبب في إنفعاله .
حين دخلت عالم الصمت هذا عرفت الكثير ورأيت الكثير رأيت أنهم في غاية اللطف ويفرحون أيما فرح حينما يجدون من يحسن لغة الإشارة وحتى من يريد أن يتعلمها يسارعون لإعانته ومساعدته لاستيعاب الإشارات الكثيرة وجدتهم منتجين متعاونين مبدعين لأقصى حد وهم كغيرهم من أبناء المجتمع لا يقلون عنهم في شيء لهم أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم ورغبتهم في التواصل مع غيرهم من أبناء جلدتهم أليس الإنسان أجتماعي بطبعه كما قال ابن خلدون ؟
مع هذا كله فلهم عالم يبدو صامتاً في مظهره إلا أن جوهره مليء بالإبداع فمبادرات لا تعرف الكلل وروح وثّابة لا يقهرها الملل، لا يفارق السرور محياهم وجوههم مشرقة بالأمل يبثون البهجة لكل من يقترب من عالمهم وتبدو كلمات أبي ماضي في شفاههم حين يقول :
هو عبء على الحياة ثقيل
من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا
والذي نفسه بغير جمال
لا يرى في الوجود شيئا جميلا
إلتقيت هناك ببعض المخلصين من الجمعية العمانية لذوي الإعاقة ( أحسبهم كذلك ولا أزكي على الله أحدا) فرأيت همة عالية وإرادة تحطم الصخر ورغبة صادقة في احتواء كل أصم يعرفونه واحترافية في التعامل مع هذه الفئة وانسجام أغبطهم عليه معهم وما الدورات التي تنفذها الجمعية إلا دليل على حرصها على نشر ثقافة لغة الإشارة بين الناس ليستطيع الإصم الاندماج بكل أريحية مع مجتمعه.
صحيح أن للصم خصوصيتهم وتفردهم وبالتأكيد لديهم تحديات ويواجهون الصعوبات ويعانون الكثير إلا أنهم يبثون لغيرهم الكثير من الرسائل غير المباشرة تدعو للأمل والرغبة في الإنجاز.
حري بنا أن نحتويهم وأن نبذل قصارى جهدنا في الشعور بهم وتفهم إعاقتهم ودمجهم مع غيرهم من أبناء المجتمع فهم ساعد قوي للبناء في هذا البلد لا ينبغي تعطيله.