حكايات خلف أسوار دار المسنين (1)
سميحة الحوسنية
كانت أيامًا قاسية قضاها (حارب) مع عائلته في زمن الستينيات، حيث كانت أبواب الغربة مفتوحة للجميع، وكثيرًا ما أوصدت بعض الأبواب، وهمَّ أهلها بالرحيل وفتحت أبواب الرزق والعيش الكريم في بلاد أخرى، فكان لا مناص من الهجرة، فحارب لا يمتلك حتى قطعة أرض ملكاً في قريته الشاسعة المساحات سوى (عريش ومنامه) يعيش فيها مع أمه (خديجة) وأخته (صفية) ولا يوجد له دخل يعينه على متطلبات الحياة، فقد عمل (بيدار) في إحدى مزارع قريته، وكثيرًا ما كان يفكر بالهجرة إلى مكان آخر يستطيع خلاله أن يسعد عائلته. نجى (حارب) بإعجوبة شديدة من مرض الجدري وقاسى كثيرًا في (معزل المجدر) لا دواء ولا رعاية صحية هناك، فقط عناية الرحمن، وقد توفي في تلك السنة الكثير من أهله وجيرانه، وقد كتب الله له الشفاء من ذلك المرض الفاتك في تلك الأيام، حيث كان يصارع من أجل الحياة.
ف(معزل المجدر) كان يبدو له عالمًا موحشًا.. تحلق في سمائه طيور الموت التي تنعق صباحًا ومساءً، ورحلة قاسية واجهها في مراحل حياته.
قرر (حارب) السفر ومضت سنوات على رحيله، واشتد الشوق وبلغ ذروته في قلب أمه وأخته.. مضت السنوات وحارب يعمل سائقًا لدى أسرة خليجية، وقد نما حب تلك الأسرة في قلبه لتعاملهم الراقي وعشرتهم الطيبة، وهناك تزوج (حارب) ليعود بعد ذلك في أواخر السبعينيات برفقة زوجته، وقد تغير حال البلاد للأفضل، فقد أخذ النور يشق طريقه في الكثير من الخدمات الضرورية، ومع الأيام ساءت العلاقة بينه وبين زوجته التي قررت أن تعود إلى وطنها، فحدث الطلاق بينهما لتزوجه أمه بإحدى الفتيات في القرية (سالمة) التي أنجبت له ابنتان وولد، وألتحق (حارب) بالعمل وبدأت الحياة طبيعية، وتمضي على ما يرام.. تزوجت أخته (صفية) وتوفيت والدته، وعاش مع زوجته وأبنائه في بيته الذي بناه من عرق الغربة والابتعاد عن الوطن والأهل لضنك المعيشة في ذلك الوقت.
أصيبت (سالمة) بمرض الكلى، وبدأت مرحلة المعاناة وقد سلب منها المرض عافيتها وجمال محياها، وانشغلت بمرضها وتربية أبنائها إلى أن اختارها الله وتوفيت، كبر الأبناء الثلاثة ووصل والدهم إلى سن التقاعد ليتكئ على أريكته التي كثيرًا ما كان يلقي عليها حمل همومه محاولًا أن يتناسى المضض الذي واجهه في حياته، فقد ابتلت وسادته واستاءت من نداءاته المتكررة ل(سالمة) التي تركته يواجه الحياة لوحده.. كبر الأبناء وتزوجوا لتبدأ مرحلة سوداوية في حياة (حارب).. تزوجت ابنتاه (عائشة وجوخة) وعاش معه إبنه (سيف) في نفس المنزل لوقت طويل، بعدها قرر الزواج من إحدى الفتيات التي أعجب بجمالها وهام في عشقها.. مضت أيام على زواجه وأبدت زوجته استياءها من وجود والده في المنزل وأنه شخص مُسن ويحتاج إلى رعاية وليست مجبرة على بقائه معهم وتقديم الوجبات له.. فكثيرًا ما كان يستمع (حارب) لمشاحناتهم اليومية التي لا تخلو من الكلمات الجارحة التي تفتح جروحه وتنادي برميه خارج المنزل.. أمطرت فصول حياته حزنًا ليلقي ابنه جمرات في مسمعه:(أبوي الحرمة ما تباك في البيت وبوديك دار المسنيين).. بدأ حارب يرى أسوار منزله تتهاوى .. وكل زاوية في المنزل تعبق بريحة (سالمة) التي لم تغادر أجواءه .. ما زال يسمع أنينها في تلك الغرفة عندما يشتد عليها ألم الكلى.. غادر وهو يرى أطفاله الصغار متحلقين عن مائدة عرقه ويملأ ضجيجهم المكان .. مضت الشهور ولم يزره إلا أخته (صفية) التي تعيش في بيت أحد أبنائها بعد أن توفي زوجها غرقًا في البحر لتتقاذفها هي أيضًا هموم الحياة.. فكان اللقاء باكيًا وموجعًا في قلب اللحظات.
ذات يوم أصيب بحمى لاسعة.. كانت شراراتها تحرق الأنفاس، وتم الاتصال بأبنائه فلم تحضر إلا (عائشة) التي تعاني من عنفوان وقساوة زوجها ومنعها لزيارة أهلها ليتقطع قلبها على حال أبيها الذي كان يعيش الغربة وهو في داره.. شاءت الأقدار أن يأتي (أبو خالد) من دولة الكويت – أحد أبناء العائلة التي كان يعمل فيها (حارب) – لزيارته بعد ذلك الانقطاع، ليفاجأ بوجوده في دار المسنين، فقرر أخذه والعودة به إلى الكويت، فعشرته وإخلاصه لا يقاس بالذهب، فكان يزوره بإستمرار في تلك الفترة التي قضاها في البلاد لتخليص بعض أعماله. كانت فرحة (حارب) عارمة عندما حصد الوفاء ورأى الرحمة تفيض في قلب (أبو خالد) و(عائلته) التي أسعدها خبر عودته .. ولكن أصيب (حارب) بمرض القلب – حسبما أظهرته نتائج الفحوصات في الدار – وبدون مقدمات كانت روحه ترفرف سعادة وألمًا في ذلك المكان الذي كان يضج بالحكايات.. فكان كالطائر المذبوح الذي يعاني من الألم .. ليشرق فجر أكتوبر الحزين وقد غادرت روحه عالمنا.
رحل (حارب) الذي كان لا ينقطع بكاءه في الدار .. مؤديًا لفرائضه ذاكرًا وشاكرًا لربه .. توفي وفي قلبه حلم السفر والعودة إلى الاغتراب، حيث موطن الوفاء في القلوب