سميحة الحوسنية
دخل (خليفة) المنزل مكفهرّ الوجه وعلامات الاستياء تسيطر على ملامحه، فأخذ ينادي ابنه (علي) ليأخذه إلى مركز التحصين بعد أن أقنعه أبناء عمومته بضرورة أخذ اللقاح كونه الوحيد الذي لم يبادر.
فقد كانت أسرته خائفة على حالته الصحية جراء الإشاعات التي يطلقها البعض، حيث يشكو (خليفة) من العديد من الأمراض والمشاكل الصحية كالسكري والضغط والكلى .. وغيرها ولاسيما أنه منذ أسبوع كان يعاني من بعض الأعراض التي تشير إلى إلتصاق (كورونا) بجسده بسبب أحداث ذلك اليوم المشؤوم عندما ألتقى بأحد من أهله في(سوق السمك)، وكان يعاني من مرض (كورونا)، لم يعر (خليفة) لحالته الاهتمام ولم يفصح الآخر عن إصابته، فقرر أن يصطحبه معه لتناول وجبة الغداء، ليصاب إثنان من أبنائه بعد أيام بتلك الأعراض التي سلبت فرحتهم وعافيتهم.
كانت الساعة تشير إلى التاسعة صباحًا وقد ارتدى (خليفة) دشداشته البيضاء وكمته الزرقاء ذات النقوش الدقيقة التي رصعت نجومها (آمنة)، ذهب ليأخذ جرعته الأولى من اللقاح.
عندما وصل (خليفة) وجد الكثير من جيرانه وأصدقائه هناك، فكان حديثهم ينصب حول اللقاح ومأمونيته ليقول (الشيبة خلفان): (من نخلص ضاربين هالبرة كل واحد يلصق 50 بيسة في زنده وبنمشيبها للبيت والي تطيح منه يشربنا بارد)، ليضحك الجميع من تلك الفكاهات التي يطلقها (الشيبة خلفان) الذي يلطف كعادته الجو لمن حوله.. فرغ الجميع من أخذ اللقاح وعادوا إلى منازلهم حين دخل المنزل كانت عائلته بإنتظاره، فاستقبلته زوجته (آمنة) التي حاولت منعه كثيرًا من أخذ اللقاح خوفًا عليه، ولكن إصرار (خليفة) كان أكبر من رفضها.
(خليفة): (يا آمنة لو رافقتيني تأخذي اللقاح ما كان أحسن لك).
(آمنة): خير إن شاء الله، كيف الإبرة ما وجعتك؟
(خليفة): الحمد لله ما حسيت فيها لا تخافي علي.
(آمنة): الله يعطيك الصحة والعافية.
(خليفة): وياك يا فنر هالبيت.
مضى يومان بعد أن تلقى (خليفة) اللقاح، فبدأت بعض الأعراض والألم تظهر عليه وفي تمام الساعة الواحدة صباحًا لم يتحمل (خليفة) تلك الأوجاع، ليدب الهلع والخوف في نبض الأسرة، فقاموا بإصطحابه إلى أحد المستشفيات، وهناك بدأت معاناته مع المرض. مضى شهر وما زال (خليفة) يرقد في المشفى، ولكن هناك تحسن ملحوظ في صحته، فقد كان متواصل مع عائلته ويستقبل اتصالهم بصفة مستمرة حتى جاء يوم الثامن من ذي الحجة، كانت ضحكاته تفعم العائلة سعادة وقد بدأوا يجهزون للعيد وكان يقول ل(آمنة): هذه أول مرة من تزوجنا ما أعيد معكم، جهزوا الأضحية، وإن شاء الله من أرجع بنأكل الشواء.
(آمنة): إن شاء الله بترجع بالسلامة وبيصير العيد عيدين.
انشغلت العائلة بتجهيزات العيد وطقوسه، والتي كانت مقتصرة على الجو الأسري، حيث كان العيد تلك السنة استثنائيًا بسبب ظروف الجائحة، فحالات الاصابة كانت في ازدياد وأرقام الوفيات مخيفة.
جاء العيد فاجتمع أفراد العائلة، وقد بدأت دموعهم تسبق فرحتهم لغياب والدهم عمود الأسرة ونور المنزل الذي لم يشرق في هذا العيد.
بادرت (آمنة) بالاتصال لتهنئ رفيق عمرها ولتريه ملابسها الجديدة التي اشترياها معاً عبر مكالمة الفيديو.
الجهاز مغلق .. عاودت الاتصال مرارًا وتكرارًا، فبدأت علامات الاستغراب تظهر في ملامحهم وسيطر الحزن والقلق على أجوائهم، محاولين الاتصال بالدكتور وبعض معارفهم هناك للاطمئنان على صحة والدهم، لا أحد يجيب .. ولكن كان الجميع يقنع نفسه بأن الجهاز فرغ شحنه أو أنه نائم وسيقوم بمعاودة الاتصال.
وفي اليوم التالي قرروا الذهاب إلى المشفى، وعندما فتحت (آمنة) الغرفة تفاجأت بالكم الهائل من الأجهزة التي تغطي وجهه وتثقل على جسده، فصرخت قائلة:(لن يعيش خليفة .. يومه قرب) لتصاب بالإغماء من جراء ما شاهدته.. لقد ساءت حالته خلال هذه الأيام.. هذا ما قاله الأطباء.
كانت (آمنة) تشاهد في تلك الغرفة شريط ذكرياتها مع زوجها (خليفة) منذ بدء زواجهما وأيام الغربة الملتهبة بالشوق ورسائله المفعمة بالقبلات من مملكة البحرين. غادرت المشفى وقد سلبت حالة (خليفة) الصحية من جفنيها النوم فبات السهر والبكاء على حالته تخلد في صباحاتها ومساءاتها .. لم تكن الأيام القادمة تحمل الفرح لقلبها الذي اعتصرته الآلام.. لقد ساءت حالته وتم نقله إلى غرفة العناية المركزة.. ذهبت (آمنة) وعائلتها وقد تساقطت أوراق الفرح من خريف عمرها وهي تردد:(خليفة لن يعيش) .. هكذا أخبرها قلبها الذي غدا يدق كطبول الحرب، فما إن وصلت حتى تبعثرت حروفها في صقيع تلك الغرفة التي يسكنها الموت وهي تشاهد تساقط دموع (خليفة) على وجنتيه وهو في عالم مجهول يصارع الموت من أجل البقاء.. وصرخات (آمنة) تكاد أن تحطم الحاجز الزجاجي الذي يفصلهما عن بعض .. عادت إلى المنزل وقد غرقت عباءتها بالدموع وثقلت خطواتها كأنها تجر جنائز الحزن بعباءتها السوداء لتكون تلك هي مشاهد الوداع الأخيرة في حياتهما .. بعد يوم بينما داعب النوم أجفانها وتعب السهر من مسامرتها وصوت بكائها، فاستسلمت للنوم لتصحو على صوت رنين الهاتف، مكالمة غيرت مجرى حياتها فأفعمت قلبها بالسواد والحزن والكلم.
لقد انتقل خليفة إلى رحمة الله.. صوبت تلك الكلمات سهامها نحو قلب (آمنة) التي لم تفارق (خليفة) في مسيرة حياتها.. فكان عالمها الذي تعيش في كنفه منذ اخضرار ربيع عمرها إلى اصفرار خريفها الحزين الذي ستقضيه برفقة الذكريات..
رحل خليفة ولروحه السلام.