سميحة الحوسنية
بدأت علامات الشيب تظهر في ملامح العم (فاضل)، فخطوط التجاعيد تغزو تقاسيمه المليحة وقد خضبت لحيته بالبياض وظهرت هالات غامقة تحت عينيه ترسم تفاصيل أخرى لوجهه الشاحب.
كثيراً ما كان العم (فاضل) يفكر في مصير عائلته بعد أن تم تسريحه من العمل من إحدى الشركات، فكان يسعى لإيجاد وظيفة تساعده على متطلبات الحياة ليجد نفسه أمام واقع مؤلم، فقد أنهكت قواه ظروفه المادية التي تجلده صباحًا ومساءً لتوفير لقمة العيش لعائلته المكونة من 5 بنات، فكان يصحو قبل صياح الديَكة ليستقل سيارته (التاكسي)، ويبدأ يومه في رحلة كسب العيش منذ الصباح الباكر.
(فاضل) الذي يعاني من آلام في عموده الفقري وضعف في النظر، وكثيرًا ما كانت تلك الأوجاع تغزوه أثناء قيادته لسيارته (التاكسي) ليعود في فتره المساء منهكًا، وكأنه عجوز (اعوَجّ قوامه) من أكوام التعب لتقوم زوجته (سلامة) بوضع (الفكس) على ظهره تخفيفًا لأوجاعه، لتداعبه (فاطمة) الصغيرة، تارةً تقبّله، وتارة أخرى تستلقي بجانبه.
كان التفكير بالمستقبل لعائلته شاغله الوحيد وتوفير كل متطلباتهم، فكان يلتقي بالكثير من الوجوه الشاحبة والمبتسمة، ويصغي إلى فضفضتهم خلال الطريق لسماحة وجهه وروح الدعابة الجميلة التي يتّسم بها.
كان بعضهم يُفضل تاكسي العم (فاضل) لأنه مفعم بالحياة بالرغم من ظروفه، فيستأنس به الراكب في رحلة الذهاب والإياب، فهو ملمّ أيضًا باللغة الانجليزية يستخدمها للتفاهم مع الأجانب.
ذات صباح كانت المزن حبلى بالغيث التي تساقطت بغزارة في قريته، ولأن منزل العم (فاضل) قديم فقد وجدت حبات المطر طريقها في النزول عبر أسقف بعض الغرف ليهرع الجميع بجلب (السطول) لتتجمع فيه مياه المطر، هدأت السماء وسكت الرعد، لتبدأ العائلة في تنظيف المكان كحال الكثير من البيوت المتهالكة في القرية.
قرر العم (فاضل) أن لا يخرج من المنزل نظرًا لجريان الوادي الذي يسحق كل شي أمامه.
في اليوم التالي خرج كالعادة وفي موقف (التاكسي) ركبت معه بعض العمالة الوافدة قاصدة أحد المستوصفات وقد ظهرت عليهم أعراض مرض (كورونا)، فهذا يعطس، وذاك يعاني من بعض الحمى، والآخر يحاول أن يخفي أعراضه تحت الكمام، لم ينتبه العم (فاضل) لتلك التفاصيل، فربما أصيبوا بنزلة برد هكذا كان تفكيره، وبعد أن ترجلوا من (التاكسي) مضى العم (فاضل) في طريقه والتقى بالكثير من الوجوه المقنعة التي تخفي ملامح وجهها الكمامة، بينما كانت أحاديثهم المتبادلة كتابًا مفتوحًا تفصح عن هوياتهم.
عاد العم (فاضل) إلى منزله منهكًا جائعًا، فخبزة التنور المغمسة بالشاي التي تناولها في مخبز العم (غلوم) بعد صلاة المغرب لم تسكت صوت أمعائه الجائعة، فأحضرت (سلامة) العشاء لتكون تلك المائدة الأخيرة التي تتجمع فيها العائلة.
في تمام الساعة الثالثة صباحًا بدأ العم (فاضل) يشعر بألم كاد أن يقطع أمعاءه، وقد بدأت حرارة جسده تحرق ملابسه القطنية ليصحو متأثرًا جدًّا بتلك الأعراض، فاستيقظت زوجته ودقات قلبها تنبض بسرعة هائلة، فسقط العم (فاضل) من شدة الألم من على كرسيه لتهرع زوجته إلى جيرانها لتطلب الاستغاثة لنقل العم (فاضل) إلى المستشفى، حيث غاب عن الوعي وأدخل غرفة العناية المركزة.
كانت أوقاتًا صعبة عاشها أفراد العائلة متأثرين بمرض أبيهم المفاجئ، وها هي الأعراض تسكن في أجسادهم واحدًا تلو الآخر، حتى أصيب الجميع بفيروس (كورونا).
لم تصمد الصغيرة (فاطمة) أمام المرض، فجسدها النحيل الذي يعاني من فقر الدم انهار أمام تلك الحمى التي التهمتها، وهي زهرة صغيرة ووردة المنزل.
هكذا كان يناديها العم (فاضل) رحلت (فاطمة) فأدمت قلب أمها الحزينة على فراقها لتمضي الشهور وحالة العم (فاضل) غير مستقرة ولا تستجيب للعلاج. وكانت المفاجأة ذات صباح عندما بدأت حالته في التحسن وفتح عينيه لرؤية عائلته من خلف الزجاج، فتخالطت دموع الفرح مع دموع الفقد، وبعد أيام تلقت العائلة اتصال بأن العم (فاضل) خرج من غرفة العناية وتم نقله إلى غرفة أخرى، وبإمكانه الذهاب إلى المنزل بعد أيام قليلة، فكم كانت سعادتهم عارمة.
بدأت العائلة تستعد لاستقبال العم (فاضل) ولكن تغير السيناريو عندما دخلت (سلامة) في الغرفة التي تم تحويل العم (فاضل) إليها، لترى بياض الغرفة وصقيع الخوف يسكنها، فلا وجود للعم (فاضل)، ذهبت كالمجنونة برفقة بناتها لتفاجأ بتلك الأجهزة الثقيلة والأنابيب التي أدخلت إلى جسده لتسوء حالته من جديد.
في غرفة العناية المركزة وعلامات الاستغراب والاستفهام تغزو ملامح الجميع.
كانت اللحظات مؤلمة، فلا فرح يسكن المكان ولا أمل يسعد القلب.
كانت (سلامة) تراقب حركة الصدمات الكهربائية لإنعاش قلبه التي تحاول إيقاظه من سباته، لتصرخ (سلامة): (استيقظ يا فاضل) لا تتركنا نحن بحاجة لك، صمتت الأجهزة لتصعد روحه الى السماء.
مات العم (فاضل) (وفاطمة) ولروحهما السلام.