إلى أين نحن ذاهبون؟
د. رضيه بنت سليمان الحبسية
قد يثير عنوان المقالة الحالية استفهامًا، حول مايمكن أن تتضمنه من محتوى. إلا أنّ المتابع للأحداث اليومية، يستطيع تخمين إطارها العام، مترقبًا ما ستُخْتَتَم به فقراتها. فالسؤال: “إلى أين نحن ذاهبون؟” نوع من الاستفهام البلاغيُّ، فلا يكون الهدف منه معرفة الإجابة، وإنَّما توصيل انطباع إلى المخاطب، على أنّ الأمر المستفهم عنه أمر مُنكر، ينكره العقل أو الشرع أو العُرف أو القانون.
نعم، هي الأحداث مؤخرًا التي تجعل من الراشد قبل القاصر، عاجزًا عن استيعاب ما ترمي إليه كثير من التغريدات، أو التصريحات، أو حتى القرارات التي تنظم السلوك العام، أو تلك التي تستهدف معالجات لوقائع يتفق الجميع على ضرورة إصلاحها. والنتيجة شغل الرأي العام، وانقسام فئات المجتمع بين متفرج، وساخط، أو مستنكر لتوقيتها، فحواها، موثوقيتها، وما إلى هنالك من تضارب في التأويلات، والتفسيرات المخفية والمعلنة بين مساحات التواصل البشري.
” إلى أين نحن ذاهبون” عبارة تفوه بها الكثيرون؛ صرخة وحسرة واعتراضًا على ما يحدث من تجاوزات، وخروج عن المألوف والمقبول بين صفوف الناس العاديين، والمختصين، وكل من له علاقة مباشرة أو ممن كانوا بعيدين؛ لتقول للمصرّح والمتبجح كفاكم استخفافًا بالأجيال، وارحموا مربين من تفاهات غير مسؤولة، تنتشر في المجتمع كانتشار النار في الهشيم؛ ممهدة لمستقبل مجهول، ومؤسسة لفكر مرفوض، ومنهج منبوذ.
وللمتأمل في التناقضات الفكرية، والاضطرابات المجتمعية، يرصد جم خطورة ما يمكن أن تؤول إليه تلك الأحداث من تداعيات، بتمرير أفكار دخيلة على المجتمعات، وخلخلة الثقة في كفاءة قادة الأنظمة والإدارات، وفتور في مساعي البناء والتحديثات، فضلًا عن غياب تقدير منظومة الأمن والأمان، التي تُعدّ مقومًا لضمان البقاء، وقاعدة الانطلاق للتقدم والرخاء.
وفي كثير من الحالات، وكنتيجة طبيعية لضعف إدارة الأحداث، وما يواكبها من تغيرات، يجعل من الناشئة تائهين بين دين، وعُرف، وتعاليم، وبين ما تأتي به التيّارات المتطرفة من مفاهيم. فتظهر في عاداتهم سلوكيات عوجاء، وممارسات لقناعات غوغاء، في ظل عولمة تكتسح العالم، وتطمس المعالم؛ فتحصد أفرادًا مشردين فكرًا، متخبطين سلوكًا، مضطربين عقلًا، ومذبذبين اعتقادًا. قال تعالى: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا﴾. (النساء، الآية: 143)
وفي غمرة تلك الصراعات، وعجز المنظومات، من احتواء نداءات وشعارات، ترفضها التربة الطيبة، والثقافة المتأصلة، فإنه لزامًا على الجميع، من مغردين أو متابعين، تحكيم العقل والمنطق، والتنبه من الإنجرار خلف تيارات أهل الزيغ، وأصحاب الإفراط والتفريط؛ احترازًا من الإنحراف عن خط الحقيقة والإيمان؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾. (النساء، الآية: 27)
كما إنّ المسؤولية الفردية كانت أم جماعية، مدخلًا لضمان الاستقامة، وتحقيق النظام والعدالة. فعلى كل صاحب قرار متخذ أو مشارك فيه، تمثّل مسؤولية تلك القرارات ظاهرًا وباطنًا؛ وفحص وترصد آثارها على أطياف المجتمع على اختلاف قدراته، وامكاناته. فالمسؤولية شرف ومساءلة؛ لارتباطها بمصالح عامة، ما افتكَّ منها المسؤول ما لم يحقق الاستقرار، أو يرعى شؤون الأفراد، وقد قال تعالى في سورة (الصافات، الآية:24): ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾.
وبالمقابل فإنّ التصرف الفردي بمسؤولية، لا يأتي نتيجة صدفة، بل نتيجة تربية، وممارسة لقيمة المسؤولية. فعلى كل من بيده زمام التنشئة، التدخل الحكيم؛ لقيادة مسائل التكوين والتأهيل، بروية وحنكة، وبأدوات عصرية؛ لما لهذا العصر من خصوصية؛ لضخامة تأثير الوسائط الاجتماعية، على مختلف المراحل العمرية. قال تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. (الحجر، الآية:92 ).
الخلاصة: إنّ تأسيس وبناء المجتمعات قائم على وحدة أفراده، وتوحيد مبادئه ومعتقداته، وإلتزامًا بنظمه وتشريعاته. أما ما كان خلافًا لقيمه، فهو أداة هدم لثوابته، ونكران لموروثاته. لذا فإنّ الجميع مسؤولون، فيما تقترف أيديهم، أو تتفوه به ألسنتهم، أو تقره أقلامهم. فلا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله، والإخلاص في القول والعمل، لقوله تعالى. ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾. (الشعراء، الآيات: 88-89).