سميحة الحوسنية
إنها الساعة الثانية صباحًا بعد منتصف الليل لم يطرق النعاس مداعبًا أجفان (زلفى)، حيث كانت سعيدة جدًّا باقتراب موعد زفافها، فكان الليل بالنسبة لها الوقت المناسب لتعيد ترتيب قائمة متطلبات الزفاف، والذي سيكون بسيطًا للغاية في طقوسه وفخمًا بحجم فرحتها في قلبها وسروره، فكم كانت تحلم بليلة العمر وفستانها الأبيض الذي كثيرًا ما كانت تنسج من السحاب بياضه، ومن النجوم لمعانه، وتفك ضفائرها وتخضبها من الليل سواده. ومن الياسمين تشك طرحتها المطرزة والمعطرة بعبق زهر الليلك وأسراره.
كانت (زلفى) فتاة في عمر الزهور، فهي تنتمي إلى أسرة بسيطة، ولديها أخ اسمه (هيثم) يكبرها بسنوات، حيث فقدت والدتها في حادث سير وهي في نعومة أظافرها، وقد ترعرعت في كنف أسرة تحبها، فهي وردة البيت؛ هكذا كان أبوها يطلق عليها.
في الصباح الباكر رنّ جرس الهاتف، إنها (فيض النور) صديقة (زلفى).
(فيض النور) : صباح الورد عروستنا الجميلة، لا تنسي موعدنا هذا المساء، سوف آتي لاصطحابك لننهي بعض ترتيبات الزفاف.
(زلفى): حسنًا سأكون في انتظارك.
مضت الدقائق والساعات ولم تحضر (فيض النور) إلى منزل (زلفى)، فشعرت بالقلق وقامت بالاتصال بها مرارًا وتكرارًا، فكانت محاولات بائسة، فثمة أمر مهم شغل فيض النور عن موعدها.
ذهبت (زلفى) إلى منزل صديقتها لتطمئن عليها فأخبرتها والدتها بأنها أصيبت بحمى أنهكت جسدها النحيل، وإنها مرهقة بعد حضورها مناسبة عيد ميلاد تجمعت فيها صديقاتها، وأن والدها اصطحبها منذ قليل للمشفى.
رجعت (زلفى) إلى المنزل وقد شعرت بالحزن لحالتها، وبعد ساعات رنَّ جرس الباب إنها (فيض النور) صديقة الطفولة والعمر، فما إن فتحت الباب حتى ارتمت في حضنها لتتقاسما حرارة الحمى معًا.
(فيض النور): أستميحكِ عذراً لقد شعرت بالخمول والكسل وكبَّلت جسدي حمى غريبة لم أعهدها من قبل، فلم أستطع الحضور بناء على موعدنا.
(زلفى): لا عليكِ يا حبيبتي ليس هناك ما هو أهم من الاطمئنان على صحتكِ.
(فيض النور): سأرحل الآن وسأحضر بعد الغد فكوني على الموعد.
(زلفى): حسنًا اهتمي بنفسك.
في اليوم التالي بدأت ملامح (زلفى) باهتة كأوراق صفراء تمضي شاحبة نحو الذبول. لم تكترث للأمر بل ظنت بأن الإرهاق من التحضيرات أكلت من جسدها شطيرة، وإنها بحاجة إلى الراحة والنوم . هكذا كانت تقول لأخيها (هيثم) الذي كان قلقًا عليها، تضاعفت الأعراض لديها، فبدأت الحمى تنهشها كضباع جائعة، فـ(زلفى) منذ زمن تعاني من مرض الربو فلم يحتمل جسدها تلك الأعراض.
بدأت في الصراخ فثمة عملاق يجثم على صدرها ولا تستطيع التنفس، تم نقلها إلى المشفى وهناك غابت عن عالمنا.
منذ ذلك اليوم لم يغمض لـ(فيض النور) جفنًا، عندما اكتشفت بأنها مصابة بمرض كورونا، فالنوم بالنسبة لها قط حالك السواد، وقد شعرت بالندم والخيبة والحسرة لحضورها ذاك التجمع الذي أثر على صحتها، فقد كان الفيروس حاضرًا يطفئ شموع الميلاد وليطفئ خلالها حياة صديقتها. كم تمنت الموت بدل حبيبتها التي يفصلها عن يوم الزفاف أياماً قليلة. لم يحتمل والدها الصدمة، فـ(زلفى) هي طفلته المدللة ووردة تعطر البيت بأنفاسها وحضورها، فابيضت عيناه من البكاء . مضى شهرًا على حالتها التي لا تستقر كموج لا يهدأ، فدموع خطيبها لا تجف، وقد رسما خارطة العشق والحب سويًا. وحبه السرمدي الذي كان بالنسبة له الحياة، كان يحمل طرحتها البيضاء وقد وضعها في كيس قماشي لتقع عينها على عهد الحب والوفاء عندما تحمل حقائبها في رحلة العودة بعد غيبوبة اعتصرت القلوب في قاعة الانتظار.
بينما كان (هيثم) و(فيض النور) أمام غرفة العناية المركزة يقرآن القرآن ويتوسلان الله أن تدب الحياة في عروق (زلفى) من جديد. ولكن كان الفجر الحزين يحمل معه الأكفان. الدكتور أحمد يتجه نحو سرير (زلفى) فأخذت (فيض النور) تصرخ وهي تضرب بأيديها الحاجز الزجاجي في محاولات فاشلة لكي تستيقظ (زلفى) من سباتها فكانت دمعة ساخنة ملتهبة نزلت من عين الدكتور (أحمد) وهنا كانت النهاية.
نامت (زلفى) وقد حملت الملائكة فستانها الأبيض وأحلامها الوردية. نامت في أحضان الظلام، فلا أمل يبصر النور، وهاجت بالبكاء قصيدة عروس ارتدت بياض الأكفان قبل ليلة الزفاف، غادرتنا (زلفى)، فلروحها السلام.