2024
Adsense
مقالات صحفية

حروف مبعثرة في العناية المركزة (1)

عندما يجهض الأمل

سميحة الحوسنية

كانت نبضات عقارب الساعة تدق متخبطةً وتهرول نحو غرفة العناية المركزة، هناك حيث يستيقظ الألم على أسرّة المرض ويتساوى الليل الطويل مع نهار الانتظار ودموع صامتة تشق أخاديد في الوجوه، فتصرخ الذات مع اختناق الكلمات وشتات الحروف.

هناك أنامل تحيي الأمل وتحيط الأرواح النائمة على أسرّة المرض بالعناية والرعاية وتنتقل من مكان إلى آخر، كانت الدكتورة سوسن منهكة وترتسم علامات التعب في ملامحها، فكنت أنظر إليها من خلف الحاجز الزجاجي الذي يفصلني عن (أسيل) التي ترقد بغرفة العناية المركزة منذ أيام، كانت مشاعر الخوف والحزن تنتابني في تلك اللحظات وقد اعتادت الدكتورة سوسن أن ترسل لي بعض الإيماءات بملامحها الجذابة التي أهلكها الإرهاق بحالة (أسيل) ومدى تفاعلها مع العلاج. كانت نظراتها مكلومة هذا المساء، أيقنت أن (أسيل) لا تستجيب للعلاج وأنها في وضع خطير، كنت أراقب عقارب الساعة الفارغة من اللحظات السعيدة ونبضاتها التي تهرول نحو بزوغ الصباح.

كانت تجتمع في قلبي الفصول والذكريات وقد ارتدت تفاصيلها الكلم، كنت أرسل رسائلاً مفعمةً بالرجاء خلف الزجاج للدكتورة سوسن لكي تبذل المستحيل لإنقاذ صديقتي (أسيل) التي تناولها المرض لقمة سائغة في لحظة تجّمع فيها أهلها على وجبة الغداء دون أن يصرح فيها أخوها (خالد) بأنه مصاب بمرض كورونا لينقل المرض إلى حبيبة الطفولة وصديقة العمر ومن كانت الحياة تحلو بوجودها، فكل ما في الحياة يذكرني بــ(أسيل) التي كانت طيبة ومرحة وجميلة الملامح. وفي ريعان عمر الزهور أمسكت بها أنامل كورونا الغليظة فحولت أوراقها الخضراء المزهرة إلى أوراق صفراء باهتة تمضي نحو الذبول والانكسار. كنت أصغي لأنفاس المرضى وهي تبعث رسائل الرجاء والدعاء عبر دموعها التي تنهال، وفي لحظات سكون لا صوت يعلو فوق صوت الأجهزة التي كان يستمد المريض عبر أوردتها الأكسجين وهمسات الدكتورة سوسن مع الممرضات بملابسهن البيضاء كالملائكة كما تحمل الأصداء أصوات الصرخات في الممرات عندما يُغطى وجه المريض وتُفصل الأجهزة، هناك أنين الألم وغصة تتجول في كل الأقسام.

توقفت الساعة المنهكة التي تلهث من الظمأ ونامت عقاربها فنظرت إلى الدكتورة سوسن التي طأطأت رأسها وفصلت الأجهزة عن (أسيل) ودمعتها تحكي لحظة الرحيل، نظرت إليّ وقد انفجرت بالبكاء وغطت أناملها ملامح وجهها، لقد ماتت (أسيل). شعرت في تلك اللحظات بأسهم تخترق نوافذ قلبي الذي غدا من الصدمة يتخبط يمنة ويسرة ليصرخ من الألم ولوعة البين، خرجت الدكتورة سوسن بخطوات مثقلة من غرفة العناية المركزة، وعيناها تنظر إليّ بكل حزن ولسانها يتلعثم، فالحروف تفرُّ هاربة والكلمات لا تنسج العبارات.

الدكتورة سوسن: لقد بذلت كل ما بوسعي لإنقاذها ولكن كانت المنية بانتظارها هذا المساء . خارت قواي فلم أعد أحتمل رؤية الأشياء، تمنيت أن تعود بي آلة الزمن إلى أجمل أيامي مع (أسيل) لأعانقها وأطبع على وجنتيها أجمل قبلات الشوق.

وداعًا (أسيل)، فلا عناق يطفئ ظمأ البين، ولا قبلات وداع أقتات بها في لحظات الصبابة وقساوة الرحيل.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights