رسالة الأستاذ جرجي زيدان للزيات (1- 2)
د. علي زين العابدين الحسيني
أستاذنا الفاضل
ولدك وولدي شكري زيدان يشكو من أن معلمه لا يعامله بالعطف الذي يعامل به الآخرين، وأنه قسا عليه بالأمس قسوة لم يتعوَّدها منه.
والأطفال بطبيعتهم يبالغون، ولكن الأستاذ الفاضل يتفق معي على أيّ حال في أن أنجع الوسائل في التربية الحديثة هي تحبيب الأطفال بالنظام والعمل من طريق الملاينة والحيلة.
وأرجو مستقبلاً أن يجد الأستاذ من تلميذه ما يحبّ من الطاعة، وأن يجد التلميذ من أستاذه ما يرغب من العطف. وأنتهز هذه الفرصة لأقدّم إلى الأستاذ تحيتي.
المخلص
جرجي زيدان
هذه رسالة كتبها الأستاذ الكبير جرجي زيدان للأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب مجلة “الرسالة” الشهيرة حينما كان الأخير معلماً على ابنه شكري في المدرسة، وهي وثيقة مهمة تظهر مدى الاحترام المجتمعي المتبادل آنذاك بين وليّ أمر الطالب من جهة والمعلم من جهة أخرى، كما أنها تحفة أدبية من أدبيات القرن الماضي حينما كانت الفكرة الأدبية سائدة ومسيطرة حتى على الحياة اليومية.
مضى جرجي زيدان بعد هجرته إلى مصر من “بيروت” في مطلع شبابه يشقّ حياته الأدبية في القاهرة، وبفضل طموحه وتطلعه إلى المجد، إلى جانب تمكنه في العلوم، ودراسته لسنوات في الطب، وإتقانه عدة لغات أصبح في وقت قصير كاتباً مرموقاً يتمتع بأسلوب كتابيّ تأثر به كلٌ من سلامة موسى وعباس العقاد وأحمد أمين.
وفي القاهرة الغنية بالمجلات والدوريات الثقافية أسندت إليه مهمة تحرير مجلة “الهلال” أكثر من عشرين سنة، منذ سنة 1892 إلى سنة 1914م، وأياً كانت الانتقادات التي وجهت له في سرده للوقائع التاريخية فسيبقى أنّه رجل أديب ذو أسلوب فريد، قدّم فناً من فنون الأدب لم يكن معروفاً.
ويمكن هنا أن أستعير كلمة الأستاذ أنور الجندي في جرجي زيدان، وبينهما من اختلاف الرؤية والمنهج الشيء الكثير؛ إذ قال: “قدّم -أي جرجي زيدان- إلى الناس صوراً للتاريخ الإسلامي في أسلوبٍ قصصيّ محبب إلى النفوس قريب إلى المتوسطين الذين لا يستطيعون هضم المجلدات التاريخية الجافة”.
أقرّ قبلها الدكتور طه حسين أنّ جرجي زيدان نقل إلى أدبنا المعاصر لوناً من مذاهب الأدب الأوربي، ألّا وهو القصص التاريخيّ.
وأما أحمد حسن الزيات فقد ولد ونشأ في مدينة المعرفة والشعر والجمال “المنصورة” التي أخرجت كثيراً من المثقفين، فتعلم في الأزهر، ثم سافر إلى فرنسا، وتعلم الفرنسية، ودرس القانون والآداب، ومن هذه الثُلاثية النادرة تكونت شخصيته: موطنه موطن شعر وثقافة، وتعلمه في الأزهر، وسفره إلى فرنسا واطلاعه على الثقافة الغربية، فبدا أسلوب الزيات، وبزغ نجمه الأدبي، وتميز بأسلوبه البياني الناصع بفنون البلاغة، حتى تربع على القمة، وصنع لنفسه أسلوباً بيانياً مميزاً يستلهم الآخرون منه أساليبهم.
بدأ الزيات حياته العملية مدرساً سنة (1917م) فعمل في التدريس الأهلي، وعلّم العربية في مدرسة (الفرير) نحو سبع سنوات، ودَرّس الأدب العربي في المدرسة الأميركية بالقاهرة (1922م)، ودارت أحداث هذه الرسالة حينما كان الزيات مدرساً للغة العربية بمدرسة “الفرير” الابتدائية بالفجالة، وكان من جملة طلابها الطالبُ المشاكس شكري جرجي زيدان.
وللمقالِ بقية لإعطائها ما تستحقه من أوصافٍ مع بيان الفوائد والحكم المستوحاة منها.