التدفق المعلوماتي الحر بين الشمال والجنوب
سها بنت سيف الشكيلية
عند تسليط الضوء على مفهوم التدفق الحر للمعلومات، فإنه يتوجب تأكيد العلاقة بين المصطلحين “التدفق” و “الحرية” كونها علاقة متلازمة لا فكاك لها، فمن هنا جاءت الحاجة للإيمان بمبادئ حقوق الإتصال، وحق الأفراد في التعبيرعن الرأي والإسهام والمشاركة في التدفق المعلوماتي بحرية، وإننا إذا ما حاولنا أن نسترجع النشأة التاريخية لمفهوم التدفق المعلوماتي الحر؛ فإن أول ظهور لهذا المفهوم يعود إلى 16 تشرين الثاني عام 1945م الذي تم فيه صياغة دستور اليونسكو، حيث نصت مادته الأولى؛ على أن الوظيفة الأولى لليونسكو هي الوصول إلى اتفاق دولي وذلك من أجل زيادة التدفق الحر للأفكار كلمةً وصورة. كما أشارت المادة رقم 19 من ميثاق حقوق الإنسان الذي صدر عام 1948 إلى حرية الفرد في التعبير عن رأيه الشخصي، وحقه في تبني الآراء، والبحث عن الأفكار والمعلومات ونشرها وإذاعتها باستعمال وسائل الإعلام المختلفة دون الاهتمام بالحدود الجغرافية والبعد المكاني. ولكن التساؤل الآن لماذا ظهر مبدأ التدفق المعلوماتي بعد 1945م؟ يمكننا أن نرجع ذلك إلى سعي الولايات المتحدة ودول أوروبا إلى زيادة قوتها بعد الحرب العالمية الثانية، حيث أن أمريكا وأوروبا هي الدول التي أسست النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية، وأوضحت أن مبدأ التدفق الحر للمعلومات يعبر عن مبادىء الديموقراطية الليبرالية ومبادئ التجارة الحرة، وفي الحقيقة أن دفاع أمريكيا عن هذا المبدأ كان لعدة أهداف؛ منها أهدافا سياسية بحتة تتمثل في إحياء ودعم وتعميق القيم الأمريكية عبر العالم، وأهدافاً اقتصادية من خلال السعي لزيادة الأرباح النتاجة من الاحتكار الأمريكي الإعلامي وتوسعة شبكات الأعمال، حيث أن التدفق الحر للأخبار يشابه مفهوم التجارة الحرة، فكلهما ذا جدوى إقتصادية تعود لصالح الدول التي تمتلك شبكات اعلامية عملاقة، ولهذا السبب سعت الولايات المتحدة لفرضه كمبدأ عالمي، حيث أولته العناية الفائقة ومواجهة التحديات التي تعترض طريقه.
يعترض ساحة التدفق الحر للمعلومات أيضاً مفهوم آخر يعرف “الاختلال”، والذي يعتبر إحدى مشاكل الاتصال الأساسية التي لا يمكن إنكار وجودها، لاسيما في الإعلام الذي يبنى على كفتين غير متكافتين. يعد الإختلال في التدفق المعلوماتي أحد مخرجات التفاوت والاختلاف في القدرات الاقتصادية والسياسية والاتصالية بين البلدان، وبصورة أوضح فإن الاختلال الإخباري هو تباين الأخبار بين الدول النامية والدول المتقدمة، والذي يحدث بين صانعي الأخبار وبين متلقيها، والذي ينجم عن وجود وكالات ذات قدرات كبيرة في الدول المتقدمة، ووكالات متواضعة القدرات بالدول النامية. إن الإختلال الإخباري بنوعيه الكمي والكيفي ظاهرة تاريخية تعكس الحقائق الإجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والمالية للمجتمعات. وهنا وجب التفريق بين الخلل الكمي والخلل الكيفي: إذ أن الخلل الكمي يشير إلى كمية المعلومات المتدفقة بين الشمال والجنوب، وهو تدفق أحادي الجانب للمنتجات الثقافية والرسائل الإعلامية والتلفزيونية والأفلام الوثائقية وغيرها من الدول المتقدمة للدول النامية. إن التدفق أحادي الجانب لا يقتصر على تدفق المعلومات من الشمال الغني إلى الجنوب الفقير، بل ويتعدى تأثيره حتى على الدول ضمن إطار جغرافي واحد، فعلى سبيل المثال تسيطر بعض الدول على سير الأخبار والمعلومات المتدفقة من القارة الأوروبية كبريطانيا وألمانيا وفرنسا؛ ولذلك بسبب امتلاكها القوى التكنلوجية والاقتصادية ومقومات التطور والتفوق، متجاهلة بذلك انجازات وجهود الدول الأوروبية الصغرى عند بثها للمعلومات خلال عملية التبادل المعلوماتي. استنتج الباحث يوهان جالتونغ في دراسته حول اتجاه التدفق المعلوماتي إلى أن المركز يسيطر على تدفق الاخبار في العالم وبنسبة تفوق 90%، وأن الأخبار التي تتحدث عن المركز تشغل الجزء الأكبر من مضمون الأخبار الأجنبية في وسائل إعلام الدول النامية أكثر مما تشغله أخبار الدول النامية في وسائل إعلام الدول الكبرى. كما يقول بريجنسكي المستشار السابق للأمن القومي أنه “يتوجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن تمتلك هذه النسبة العالية من المادة الإعلامية، وأن تشيع في العالم النموذج الأمريكي للحداثة من خلال تعميم المعايير والمبادئ الأمريكية، وهو الأمر الذي يؤدي إلى اختراق الحدود القومية والانحسار الكبير في سيادة الدول”. ومما يدل على هيمنة الشمال في التدفق المعلوماتي أن وكالات الأنباء الأربع الكبرى (AP,AFP,UPI,Reuters) هي المصادر الإعلامية المسيطرة للأخبار الخارجة من دول شمال القارة الأمريكية وغرب القارة الأوروبية وأمريكيا اللاتينية وقارات أفريقيا وآسيا. كما يؤكد السيطرة الأمريكية المطلقة أن وكالتي AP و UPI وحدهما توزعان 28 مليون كلمة في اليوم الواحد، وتركز هذه الوكالات على الأخبار السيئة والتي تعكس صوراً سلبية عن البلدان النامية، كالأخبار المتعلقة بالعنف والكوراث والإرهاب والحروب والفساد، أكثر من نشرها للأخبار المتعلقة بالتنمية الإقتصادية والإجتماعية والثقافية؛ مثال ذلك ما نشرته وكالتي الأنباء الفرنسية AFP والبريطانية رويترأخباراً كاذبة عن وقوع اعتدائيين إرهابيين في بومرداس وجوان عام 2008م. إن مصداقية هذه الأخبار المتداولة بين الشمال والجنوب تشكل الخلل الكيفي من اختلال التدفق المعلوماتي الحر. يتبين هذا الخلل في تداول الأنباء والأخبار، والفرق الشاسع بين كمية الأخبار المتوجهة من الدول الصناعية للدول النامية، وكمية التدفق في الإتجاه العكسي، حيث يتدفق حوالي 80_90% من الأخبار من الشمال إلى الجنوب، بينما لا تخصص وكالات الأنباء الكبرى إلا 10_30% فقط من أخبارها للدول النامية جميعها، كما يغلب على هذه الأخبار تشويه صورة الدول النامية، وخلق صورة سلبية، بإلاضافة إلى عاملي التعتيم والتضليل الإعلامي الذي تمارسه هذه الوكالات ضد الدول الصغرى، كما نضيف أن وكالات الأنباء المحلية والإذاعة والتلفزيون والصحف المحلية لكثير من الدول النامية لا تمتلك مراسلين خاصين بها، بل تعتمد اعتماداً كلياً على وكالات الأنباء العالمية من أجل الحصول على الأخبار، ويتضح ذلك جلياً في توزيع مراسلي وكالات الأنباء في العالم، حيث أن أوروبا وأمريكيا تتربعان على الصدراة. إن تصريح غاندي رئيس الوزراء الهندي 1976م أصدق تعبيراً عن هذا الاختلال حيث قال “نحن نريد أن نسمع الأفارقة وهم يتحدثون عن الأحداث الجارية في إفريقيا، ولابد أن تكونوا بالمثل قادرين على سماع تفسير هندي للأحداث الجارية في الهند……” .
من وجهة نظرنا الشخصية؛ فإن هذا الاختلال في التدفق المعلوماتي ظاهرة طبيعية حدثت نتيجة للفجوة المعلوماتية والتقنية بين الطرفين، فعلى سبيل المثال تشير الإحصاءات أن 45% من البلدان النامية لا تمتلك محطة تلفاز خاصة، كما أن هنالك توزيع غير عادل في طيف الذبذبات الإذاعية بين الدول المتقدمة والنامية، وهذا بحد ذاته دليل يمكن أن نرجح إليه مشكلة التداول الإخباري ذا الإتجاه الواحد.
ويأتي السؤال الآن عن إمكانية شبكة الإنترنت و وسائل الإتصال في تضييق فجوة التدفق المعلوماتي الحر من الشمال للجنوب وإلغاء الهيمنة الغربية؟
يمكنننا القول أن ثورة الاتصال والمعلومات، واختراع الانترنت والشبكة العنكبوتية قد حقق نتائجاً باهرة وملحوظة. استطاع الإنسان خلال هذه الفترة من تصفح الملفات و استقبال الإرسال التلفزيوني، وتشغيل الإذاعات وتوفير خدمات الانترنت الهاتفية؟ وتبادل الأخبار والأنباء بين بقاع الأرض المختلفة. إن هذه في المجال الرقمي أدت إلى ظهور إلى ما يعرف اليوم بالمنابر الإفتراضية والتي أتاحت الفرصة للناس العاديون حتى للمشاركة في تبادل الأفكار والإهتمامات والحورات عبر منصات التواصل الإجتماعية المختلفة. وتتميز المنابر الإفتراضية كتويتر وانستجرام والواتساب وغيرها بسرعة نقل الخبر وقلة التكلفة، و ابطالها للحدود الجغرافية، حيث يمكن أن تصل إلى أقاصي الكرة الأرضية وبعيداً عن الرقابة الحكومية. إن هذه التطورات الحاصلة وفعلاً لها اليد في تضيق الفجوة الرقمية ومواجهة مشاكل إختلال التدفق المعلوماتي الحر الذي سيطرت فيه الدول الغربية. حيث أصبح لأي فرد من المجتمات النامية القدرة على التواصل والتفاعل مع الجمهور الغربي بمجرد كسر حاجز اللغة.
في العقد الأخير من القرن العشرين ظهرت عدد من المؤسسات الإعلامية التي استطاعات أن تحقق العديد من الاختراقات النوعية والنجاحات على مستوى الأداء الإعلامي العربي بوجه خاص، والتي استطاعت أن تنافس العديد من الوسائل الإعلامية الدولية المتطورة، وتمثل مواقع لها حضور مؤثر وفعال، ونذكر منها قناة الجزيرة الفضائية القطرية، وقناة العربية السعودية، وقناة أبو ظبي الفضائية، وصحيفة الحياة اللندنية السعودية، وصحيفة الشرق الأوسط اللندنية وغيرها. والجدير بالذكر أن تدخل الدولة أو الحكومة في مجال الإعلام شهد تراجعاً كبيراً، مما أدى إلى سهولة نشر الأخبار المحلية، ولم يعد ممكنا إخفائها عن الرأي العام حتى لو كانت الحكومة المعنية تعارض نشر الخبر، إلا أن التقنية التلفازية تخترق الحدود بلمح البصر. و يشير د. محمد المشيخي في مقاله الصحفي بعنوان: المواطن الصحفي في القرن الحادي والعشرين؛ أن اللغة الأنجليزية تمثل الحاجز الذي يحد من انتقال الأخبار من الجنوب للشمال، وأن الإستثناء الذي يمكن ذكره جاء من خلال إنشاء قناة الجزيرة القطرية التي تبث الأخبار باللغة الإنجليزية، والتي قد تعد خطوة هادفة من أجل تنمية تدفق المعلومات على الجانب الآخر وكسر الهيمنة الغربية.
نعتقد أن مواجهة مشاكل الاختلال في التدفق المعلوماتي في ظل التطور الرقمي تتطلب الإقدام على إنشاء إنترنت عربي، وشبكة ملعوماتية عربية، بالإضافة إلى تخفيض تكلفة رسوم الإنترنت والذي يمكن المواطن من الإطلاع والمشاركة بسهولة، كما يجب أن نضع بالحسبان ضرورة صياغة الأخبار ضمن قالب يمكن الجمهور المستهدف من فهمها واستيعابها والإفادة منها، بالإضافة إلى مراعاة الفوراق الثقافية والإجتماعية بين كلا الطرفين المرسل والمستقبل.