فلتفرحوا بقدوم رمضان
الدكتور / علي زين العابدين الحسيني
تملأ نفوسنا مشاعر روحانية يصعب وصفها حين يقترب دخول شهر رمضان، وتختلف دورنا فيه عن غيره من أيام السنة، وتدبّ في شوارعنا حركة غير عادية علاوة على تغير شكلها، ويستعدّ الجميع لأعمال البر، وتنتشر عبارات التهنئة، ولِرمضانَ كلماتٌ ترحيبيةٌ خاصةٌ به لا يزاحمه فيها تَهْنِئَات المواسم الأخرى، ويبدأ الجميع في التعبئة المعنوية للصوم، والتنافس لتحصيل الخيرات.
كنّا نعيش في مجتمعاتٍ تتفاعل مع مواسمها الدينية، فتنتشر في هذه المواسم أندية ثقافية وأخرى ترفيهية لا تخرج عن كونها مجالاً لرصد المواهب، وتقام فيها المسابقات الثقافية والرياضية والفنية ذات الشعبية الهائلة، ويجتمع في أيامها الأهل والأقارب والأصدقاء، فكنا ننتظر أجواءها من السنة للسنة، وفي موسم رمضان يجد كلّ منا سلواه، فيتحين المحبّ للرياضة بلهفٍ فرصةَ إقامة الدورات الرياضية، ويجد المغرم بالثقافة بغيته في الأمسيات الليلية.
كان المجتمع ينطلق من منطلقاتٍ تربويةٍ، ويهدف إلى تحقيقِ أهدافٍ ساميةٍ، من أهمها استغلالُ شهر الطاعة، والتعرضُ لنفحات الله عز وجل، فيعدّ الشهر فرصة لا تعوض للتزود من الحسنات، وزيادة التلاحم المجتمعي، ورفع ألوية التكافل الاجتماعي، ومع اقتراب غروب شمس كلّ يوم من أيامه تصل الأعمال الخيرية لأعلى درجاتها، فيتنافس المتنافسون في تحصيل أجر إفطار الصائمين، ولا تخلو أيامه من وسائل التسلية المعتدلة والبهجة العامة.
أتذكر تلك اللحظة الفارقة في نهاية شهر شعبان حينما يقرر فيه أطفال الحي السكنيّ الاجتماع لترتيب أمور الزينة والأجواء الرمضانية، وجَدْولة كلّ ما يتعلق بالبيت الرمضاني، وهو اجتماع مصغرٌ لا يكاد يتخلف عنه أحدٌ، فيحظى باهتمام بالغٍ، وعادة ما يُتخذ فيه عدة إجراءات تَنْصبّ جميعها في إعادة أجواء رمضان السنوية من الزينة والفوانيس والإنارة في الشوارع قبل حلوله بأيام.
هذه الفجوة الكبيرة الحاصلة في الاستعداد للمناسبات والتهيؤ لأجوائها في الوقت الحاضر إنما تحكي واقعاً جديداً بين أجيالٍ مختلفة، فحين تعيد ذكريات طفولتك مقارنةً مع حياة الجيل الصاعد ستدرك أنك تقف في منطقة وسط بين جيلين، عاش أحدهما كل طقوس المواسم بألوانها الزاهية، وعاداتها المألوفة، ثم جاء جيلٌ بِأخِرَة لا أجد تشبيهاً أفضل من كونه سائراً في طريق ينفرد فيه بنفسه يبحث عما يريده هو فقط.
لقد بُلي هذا الجيل بما يمكن أن أسميه “العبودية النفسية” التي عظّمت في أعينهم تقاليد غيرهم، وهمّشت أو احتقرت عاداتهم الموروثة، فهَجَر كثيرٌ منهم السنن الرمضانية في الفرح والاستبشار بقدومه، بل ربما ازْدَراها، وإذا شارك غيره في مناسباته فإذا هو غير بصير بغايتها، ولا محتف بقدسيتها، ولذا فالهاجرون لعاداتنا الرمضانية، والمبالون بهذه التقاليد اليومية إنما هم بعيدون أشدّ البعد عن مصدر اعتزازهم بموروثهم الشعبي.
نحن مع تقاليد رمضان وعاداته بين فئتين، فئة ابتعدت عن كلّ عادة جميلة متصلة بالتراث الوطنيّ، فاستبدلت بها عادات وافدة على مجتمعاتنا، وصارت لا تعبأ بالشهر وقدسيته، وانجرت وراء كل تافه قبيح تتابعه، فلا هم حافظوا على الآداب الموروثة، ولا هم أتوا لنا بما هو جديدٌ نافعٌ.
تنتهز الفئة الأخرى كلّ فرصة لاجتماع الناس على الخير، فتصنف هذه العادات الحسنة على أنّها من البدع المستحدثة، ولا ينفك كلامهم عن الطعن في كلّ عادة موروثة حجةَ أنها لم تكن موجودة من قبلُ، ويتباحثون فيما بينهم حكم الشرع فيها، وما ذاك إلا لبعدهم عن الفقه الحقيقي، وها نحن في صراعٍ دائم مع الانحلال والتطرف، وكلاهما سُوءٌ وخطرٌ على المجتمع.
لو كلفوا هؤلاء أنفسهم التعلم لعرفوا أنّ ضرب المدافع وإيقاد القناديل المعلقة بالمنائر، ونحو ذلك مما جرت به العادة في مصر من الأمارات التي عدّها العلماء علاماتٍ دالةً على دخول شهر رمضان، وأنّ حكمها كحكم الرؤية، وإكمال العدة في وجوب الصوم، وقد بحث العلماء هذه العادات في كتبهم، وأقروها، واعترفوا بها، وبنوا عليها أحكاماً شرعية مبثوثة في تصانيفهم.
إنّ هذا الشهر العظيم مدرسةٌ ربانيةٌ تفتح أبوابها في السنة شهراً واحداً، ثم تغلق أبوابها، فيظفر بشهادتها المجتهدون، ويخفق فيها الكسالى والمحرومون، وليس للرسوب تعويض أو إعادة اختبار، ليس هناك إلا سبيل واحد، أن تعيد دراستك في موعدها من السنة القادمة، لكن هذا لمن ضمن البقاء، فليت جميع السنة رمضانات، فهو مجمع الخيرات.
يكفي لمعرفة فضيلة الشهر أنّ السنة تؤقت بموعده واقترابه، وهو أيضاً يُوقت لنا الوقت، فانتظار سحوره في موعد، والاقتراب من غروبه في موعد، وتجتمع الأسرة كلها بسببه على موعد واحد في طعامهم وشرابهم، ينتظرون جميعهم غروب يومه، ويترقبون صبح يومه، ولا أحسب أن أحداً يهتم بالوقت مثل اهتمامه في رمضان.
مِن دروس رمضان اليومية أنّه يعلمك الرجاء، وما زلتَ تتقلب فيه بهذا الرجاء، فأنتَ ترجو في أيامه مواقيتَ الإفطار، وفي لياليه موعدَ السحور، ومع كلّ ليلة يتجدد فيك الأمل فترجو مغفرة ربك، حتى إذا دخلتِ العشر الأواخر قويتْ عزيمتك واجتهدتَ في عبادتك فرجوتَ أن تكون من عتقائه من النار، وإن شقّ عليك صيام آخر أيامه فإنك ترجو الفرح بيوم العيد.
ألا إنّ رمضانَ شهرُ بهجةٍ، وموسمُ فرحةٍ، وأيامُ زينةٍ، فمواعيده محكمة، وعاداته طيبة، وزياراته اجتماعية، ونفحاته وافرة، وأوقاته عامرة، ومشاعره عالية، ولياليه روحيه، وفيه نياتٌ صالحة، وسننٌ معلنة، وخيراتٌ واضحة، وتجلياتٌ ظاهرة، فاحذروا أشدّ الحذر أن تعيشوا فيه بلا عادة، بلا سنة، بلا بهجة، وافرحوا بقدومه، وحافظوا فيه على ما بقي من ذكريات، فهي أمانٌ لكم.