لا تكفي زيارة واحدة لقسنطينة
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
نعم؛ ثمة فترة زمنية فاصلة ما بين المناضل الكبير الأمير عبدالقادر بن محي الدين الجزائري المتوفى في ((1883م) وبين رائد النهضة التنويرية في عبدالحميد بن محمد الصنهاجي الجزائري – ابن قسنطينة – الملقب بـ “ابن باديس” والمتوفى في (1940م) ولكن الإثنين اجتمعا على مقاومة المحتل، الأول بالكفاح المسلح المباشر، والثاني بالإصلاح الديني والتربوي عبر الكلمة الناضجة، ولئن كان الأول من غرب الجزائر، فإن الثاني من شرق الجزائر من قسنطينة التي تعد عاصمة الشرق الجزائري، والتي عرفت قديما بـ “سيرتا” وتعود نشأتها إلى القرن العاشر قبل الميلاد، وتشير بعض المصادر إلى أن قسنطينة: “عاصمة العلم والثقافة ومركز النهضة الجزائرية؛ فقد ظهرت هذه النهضة على يد العلامة الجزائري عبد الحميد بن باديس الذي أسس (جمعيّة العلماء المسلمين)، وقد لعبت هذه المؤسسة دوراً بارزاً في تعليم اللغة العربية في مدارس ومعاهد المدينة إبان الاستعمار الفرنسي، وتم اختيارها لتكون عاصمة الثقافة العربية عام 2015م”.
في المسافة الزمنية؛ عبر المركبة؛ ما بين الجزائر العاصمة، وما بين قسنطينة المتربعة على عرش قمم صخرية عالية السمو، وعصية المراس، تمتد إلى أقل من أربع ساعات، بإمكان الزائر أن يلمح كثيرا من المدن المتناثرة على جانبي الطريق، وهي ما تدهش زائرها بما تحتويه من خصوصية المكان، وأثر النهضة الجزائرية الحديثة على مفاصلها التنموية المختلفة، حيث يأسرك الامتداد الطبيعي الممتد عبر المنحدرات والمرتفعات التضاريسية، فلا تعلم إلا وأنت تلج إلى مداخل المدينة عبر مداخلها السبعة، حيث تستقبلك جسورها السبعة المعلقة، يتقدمها جسر “سيدي راشد” أضخم الجسور الحجرية، وجسر “باب القنطرة” أقدمها عمرا، والذي يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي – كما هو المصدر – يسميها أبناؤها بـ “مدينة الصخور وأعشاش النسور” نظرا لعلوها المرتفع على قمم الصخور التي تفصل المدينة إلى قسمين طبوغرافيين، حيث يتوسطها “وادي الرمال” الذي يقسم المدينة إلى قسمين رئيسيين تحيط بهما منحدرات صخرية غاية في الانحدار الذي يصدم سكون الزائر لمدينة قسنطينة لأول مرة، ويشرق من بعد عبر هذه المرتفعات الآسرة لمدينة يمتد عمرها الى (2500 سنة) الجامع الكبير المسمى بـ”جامع الأمير عبدالقادر الجزائري” ويعد أكبر جامع في الجزائر، ويتسع لأكثر من (15) الف مصل، قبل افتتاح مسجد “الجزائر الأعظم” الذي يتسع لنحو الـ (120) ألف مصلٍّ؛ وفق ما تشير إليه المصادر؛ ويختم جمال هذا التطواف دماثة خلق وكرم إنسانها المعزز بالهمة وكرم الضيافة، حيث يعقد مع الزائر صفقة رابحة من الود المغري بتكرار الزيارة.
تمتاز المدن العربية عموما؛ بتفاصيل الزمان والمكان؛ بالكثير من الشواهد الإنسانية والحضارية، استطاع الإنسان العربي عبر عقود الزمن أن يوجد فيها البقاء، ويكسبها الحياة، فالفعل الإنساني الجميل في المعارف، وعبر توظيفه لمعززات هذا البقاء، هو بذلك يكتب تاريخ هذه المدينة أو تلك، وهذا الفعل الإنساني الممتد منذ نشأة الحياة الأولى، وإلى اليوم هو أكسير الحياة لهذه المدن كلها المتوزعة من شرق الوطن العربي حيث مدينة صور العمانية؛ أول بلد تشرق عليه الشمس؛ لهذا الوطن العربي الممتد إلى المملكة المغربية في أقصى الغرب، مرورا بعدد من المدن والعواصم العربية الرائعة، التي تتنافس فيما بينها على الجمال، والتاريخ، والثقافة والمعززات الحضارية الأخرى، ويكفي الإنسان العربي شرفا أن يستجمع هذا الكم النوعي من المدن عندما يراوده الحنين لزيارة أي منها، فكلها؛ وبلا استثناء؛ تعد مناخات آمنة، للاستجمام والتنزه، وقضاء أيام سعيدة ومباركة، وتظل هذه المدن كلها؛ مدن تستقبل زائرها بالأحضان، وتشعره بالاطمئنان، وتقدم له قبلة من أريج، يظل عربون صداقة وأخوة مهما تناءت المسافات، وتراكمت الأزمان ما بين الزيارات، ويظل القول: “بلاد العرب أوطان …” هو الدليل لمسارات الطريق عبر خريطة هذا الوطن العربي الكبير والعزيز.