(مع الكتب) -2- الخطرات
علي زين العابدين الحسيني
أسجل في هذه الخطرات بعض ما مرّ بنفسي من إمعانٍ في بعض الأحداث، وأخضع في ذلك إلى ما يوحيه الخاطر عبر الأيام مِن غير حرصٍ على ما يحرص عليه الواصفون، أو عنايةٍ بما هو معروفٌ عند المؤرخين، فما يسجله القلم هنا هو ضربٌ من التصوير لبعض خطرات النفس حينما تحاول تذكر ما كان، وتسمو بها إلى عالمٍ آخر من معالم الانتفاع، وإلى معنى من معاني العظمة، ولذا كانت هذه الخطرات التي أسعى جاهداً أن تكتمل على صورةٍ تليق بمَن هي مُوجهةٌ لهم؛ ليجدوا فيها مادة إثرائية، ويشعروا معها بعبق الذكريات، وحتى يتم الاكتمال أنشرها من خلال مقالات في الصحف، مقالٌ يتلوه مقال، وعسى عما قريب يشيد البناء فتكون في كتابٍ يجمع شتات ما تفرق هنا وهناك.
******************
ليس أغلى عند الشخص المشتغل بالمعرفة من كتابه، ولا إخالني أكذب حينما أخبرك أنه ربما يستغني عن كثيرٍ من مقتنياته الشخصية إلا مصدر ثقافته، فلا يغمض له جفن ولا يقر له قرار عند فقد كتابٍ، هذا إحساس غريب قد لا يعرفه كثيرون، أن تشعر أن الكتاب تحول فجأة إلى كونه عضواً من أعضائك، ومع مرور الأيام يزداد تعلقك بالكتب وشوقك لمكتبتك، حتى ينتهي بك المطاف أن يصير الكتاب شيئاً محسوساً تناجيه وتتحدث معه، وتعتقد أنّه يتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، هذه سلسة من الحالات يمرّ بها العاشقون، وآخرها أن تخاف على كتبك كخوفك على أولادك، قد تكون كتابتي هذه تستوجب اللوم عليّ ممن لا يقدرون هذه المشاعر نحو الكتب، لكن هذه مشاعري نحو الكتاب، وأخذتُ على نفسي عهداً أن أكتب كلّ ما يجول في خاطري، هكذا سأكون.
******************
كان أستاذنا العلامة الفرضي الحاج شحاتة سليم بقة (ت1431) حريصاً على مكتبته، فيقوم بتجليد كتبه بنفسه، ويعتني بها اعتناءً خاصاً، وإذا ما خرج من بيته أغلق مكتبته وأحكم القَفْل، وكان من عادته ألا يُدخل أحداً مكتبته، ولم يسمح لي برؤية مكتبته والاطلاع على كتبه وأوراقه الخاصة إلا بعد شهور من التحاقي بالدراسة عليه في حلقته، وكان أول دخولي لها أمراً مضحكاً، إذ جلس مولانا الشيخ على باب المكتبة ينظر إليّ ويرقبني، وبعد خروجي قام بحركة غريبة، حيث وضع يده في جيبي متحسساً الكتب، فلما تأكد أنّي لا أحمل شيئاً منها سمح لي بالخروج، أشبه ما يكون بالتفتيش الذي يكون في المطارات، ثم مازحني بأنّه خاف أني أحمل كتاباً ناسياً، هكذا كان حرصه على الكتب وقد تجاوز يومها الخامسة والتسعين من عمره.
سألته بعدها بمدة عن سبب شدة تعلقه بمكتبته، فأخبرني أنه يخاف على كتبه كخوفه على نفسه، بل أشد؛ لأنها أغلى ما يملكه، وتكاد في المحبة تعادل محبته لأولاده، وقد أكرمني فيما بعد بدخول مكتبته والاستعارة منها كيفما أردتُ، وزاد في كرمه -كعادته- فأهدى لي مجموعة من كتبه الخاصة العزيزة؛ كحاشية شيخ الأزهر البرماوي على شرح ابن قاسم في فقه الشافعية، والمصباح المنير للفيومي، وغيرها.
******************
زرتُ أستاذ الأساتيذ العلامة الفرضي الشهير عبد الرحمن بن محمود مضاي العلوني الجهني (ت1430) في بيته، وهو من علماء السادة الشافعية بالمدينة المنورة، وآخرهم تدريساً في المسجد النبوي، وقد أهداني كتابه القيم “الروض الأنيق في أحوال الورثة على التحقيق”، ولسببٍ ما ضاع كتابه مني مما سبّب لي حزناً شديداً، وفي إحدى زياراتي للمدينة المنورة وأثناء وجودي فيها في فسحة من الوقت تواصلت مع ولده الأكبر وكان على سابق معرفة بي، ورغبت في زيارته وفاءً لحق أستاذنا، وأثناء حديثي معه أخبرته عن طريق الهاتف أني في حاجة إلى كتاب والده في علم الفرائض، فردّ علي بما لا يصدقه عقل، إذ أخبرني بأن مكتبة والده منذ مات وهي مغلقة، وقد تجمعت في غرفةٍ يكاد لا ينتفع بكتبها أحدٌ، ومنذ مدة وهو يرغب في إهدائها لمشتغلٍ بالعلم، وطلب مني إذا كان الأمر في استطاعتي، فبإمكاني أخذها، وفي حقيقة الأمر لم أصدق ما أخبرني به وظننه مازحاً، ومِن هَوْل ما سمعت سقط الهاتف الجوال من يدي، فعاودت الاتصال به، واستفهمت منه، فكانت فرصة هائلة للتعرف على عقليةِ عالمٍ كبيرٍ وفقيهٍ محققٍ من خلال عناوين كتب مكتبته وطالب لا يُضيع فرصة في التعرف على العلماء ومكتباتهم.
كان الموعد المقترح بيننا أن أذهب إليه في الغد، وحتى لا تضيع عني الفرصة أخبرته إذا كان ما بالإمكان أن أزوره بعد سُويعات، فرحب ترحيباً شديداً، فأخبرتُ صديقاً لي من أهل المدينة بما حدث، وتفضل مشكوراً ورافقني بسيارته إلى بيت شيخنا، ولمن لا يعلم فبيته قريب من المسجد النبوي، وقريب من مكتبة شيخنا السيد مالك العربي السنوسي، فلا يفرقهما إلا شارع واحد، كانت المكتبة في الدور الرابع، وهي كثيرة مما يستوجب علينا أن نجد مَن يعيننا، وأنا كذلك حريصٌ على حملها في يومها، فقد يتغير رأي ابنه لأيّ سبب، أو يعرض عليه ما يحول بيننا وبينه، فأبصرت شباباً واقفين على رأس الشارع، فأخبرتهم أني أريد منهم مساعدتهم بأجرها، وسرعان ما كانت المكتبة في الشارع بعد تكاتف جهود الجميع في نقلها، وقد كانوا في عملهم جميعاً كخلية نحلٍ نزولاً وصعوداً مع اعتناء بالكتب بعد تشديد الأمر عليهم.
أخذتُ المكتبة بكاملها ونقلتها إلى مدينة الرياض محل إقامتي آنذاك، وجلستُ معها شهوراً قد لا يجود الزمان بمثلها مطالعة وبحثاً، وعكفتُ على قراءة ملاحظاته على هامش كتبه قبل نقلها إلى مصر، وهي تحتوي على كثيرٍ من نفائس المطبوعات، خصوصاً في الفقه الشافعي وعلم الفرائض، وهما العِلمان المبرز فيهما شيخنا، ومن نفاستها تلك التعليقات الفريدة على هوامش كتب علم الفرائض، كحواشيه النفيسة على كتاب “فتح القريب المجيب بشرح كتاب الترتيب” للإمام عبد الله الشنشوري، وهكذا آلت مكتبة شيخنا الفرضي عبد الرحمن الجهني إلى حوزتي، ولم أكن أحلم بمثل هذا من قبل، لكن هكذا الأقدار تجلب لك الخيرات من حيث لا تدري، ومكتبته لا شك أنّها من الخير الذي ساقه الله إليّ دون حرصٍ أو طلبٍ.