بين النص والواقع
أحمد بن سالم الفلاحي
shialoom@gmail.com
عندما نطرح سؤالًا بديهيًا هنا؛ وفقًا للعنوان؛ فنقول: أيهما يأتي أولًا؛ النص أم الواقع؟ وأيها يٌسِّير الآخر؛ النص أم الواقع؟ وأيهما أقرب إلى الحقيقة؛ النص أم الواقع؟ وأيهما يحتاج إلى الإيمان به؛ النص أم الواقع؟
عندما نعرّف الواقع، فهو الحقيقة الماثلة أمامنا في أي شيء، فعندما أجلس على الكرسي؛ وأنا أكتب الآن؛ فالكرسي واقع، وجلوسي عليه واقع، أي لا يحتمل الغيب، أما عندما نأتي إلى النص؛ فإننا نعني به النص المكتوب، أو العرف القائم بين الناس، وبالتالي وإن عد أنه واقع، إلا أن واقعيته معنوية لا يدركها الجميع، فهل ثمة علاقة بين الإثنين؟ وما حدود هذه العلاقة؟ هذا ما نناقشه معكم في هذه الإطلالة اليوم.
تأتي علاقتنا بالواقع من خلال ما نقوم به من ممارسات طوال اليوم، وهذه الممارسات فيها الخطأ والصواب، وفيها الواجب والمندوب، وفيها الأمر والنهي، وفيها الحلال والحرام، وفيها ما هو يهم الناس من حولنا، وفيها ما يعلي من مصلحتهم، أو ما يضر هذه المصلحة، وعلينا كأفراد في المجتمع أن نستحضر كل هذه المعاني والمفاهيم ونحن نقوم بممارسة أي فعل الواقع الذي نعيشه، ولأننا بشر تتحكم فينا الكثير من العواطف، والكثير من التجاذبات النفسية والمجتمعية، ومن المصالح الذاتية، ومن المصالح الجماعية، فإننا بذلك لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نكون منصفين، وأن نكون موضوعيين، ومن هنا تأتي ضروريات الـ “نص” ليحكم هذه العلاقات وينظمها كلها معنا ومع الآخر، وليعطي كل ذي حق حقه، حسب القاعدة الموضوعية: “لا ضرر ولا ضرار”.
إذن ووفق هذه الرؤية يكون النص هو الضرورة، لأنه هو الذي يقود الواقع إلى الصلاح، وبالتالي متى خرجت ممارسات الإنسان عن هذا النص، يقينا؛ وبلا جدال؛ سوف يتضاعف ظلم أحدنا على الآخر، وسوف تحدث مجموعة المصادمات، وسوف يحدث التنازع والشقاق، فالنص هو المعول عليه كثيرًا في بقاء الجميع “على كملة سواء”، وتتقاسم النصوص كلها سواءاً الدينية التي هي من عند الله، أو تلك التي يضعها البشر لتنظيم حياتهم، تتقاسم كلها ترسيخ سبل العدالة بين البشر، وتوصل الناس “إلى الضفة الأخرى من النهر” آمنين سالمين، دون انتقاص حق، أو نزع عدالة، أو تغليب مصلحة على الأخرى، مع التسليم المطلق أن النص الآتي من عند الله، هو أرقى النصوص، وأعدلها، بصورة مطلقة.
ولكن لأن الإنسان مجبول على الخطأ، وعلى العناد، وعلى الـ “خروج عن النص” كما يقال، سيظل هكذا على صيرورته الفطرية، فلن يستسلم للنص، ولن يرضى به حاكمًا، ولن يقتنع به عدلًا، سيظل هكذا على اعوجاجه، وسواءاً هذا النص من عند الله، أو من صنع البشر أنفسهم، فالأمر سيان عند كثير من الناس، ولذلك نرى هذه الصدامات التي تحدث بين بني البشر، ونرى هذا الاقتتال بينهم، ونرى هذا الظلم السائد، والوشوشات المفضية إلى حقن القلوب بالكره والحقد، ونرى (هذا من شيعتي وهذا من عدوي) وقس على ذلك أمثلة كثيرة، على الرغم من التجربة الإنسانية الطويلة التي لم تهد الإنسان شيئًا من مباهج الممارسة، ولا من نعيمها، بقدر ما عززت عنده الخبرة في الإساءة للآخر، ولذلك ظل الـ “نص” يتيمًا، لا أب يحميه، ولا أم تشفق على شقائه بين بني البشر، وظل الواقع هو المتسيّد بأخطاء البشر الذي يفعّلونه بممارساتهم المختلفة.
إذن الواقع كما هو مسماه، يمثل حقيقة مطلقة لا جدال عليها، ولكن النص يظل حقيقة نسبية، ونسبيته هذه تأتي من مدى الإيمان به، فالناس متفاوتون في ذلك، فمنهم من يرى في النص مخرج لكل مشكلات الحياة، وإن عارض هذا النص مصالحهم الضيقة، ومنهم من يرى أن النص معرقل لطموحاته، وبالتالي: إن لقي هذا النص متسعًا من الاهتمام والاحترام عند الطرف الأول، فلن يلق ذلك عند الطرف الآخر، وستبقى إشكالية النص قائمة عند هذه النقطة.