بلا عنوان
بقلم : د . علي زين العابدين الحسيني
مضى لي على كتابة موضوع واحد أكثر من أسبوعين، أحاول كل يوم أن أفتح الصفحة لأكمل هذا الموضوع، أكتب سطراً أو سطرين ثم أغلق الصفحة، وأنشغل بغيره من الأمور، الموضوع ليس صعباً بهذه الصورة فهو موضوع ربما لا يحتاج إلا دقائق لإكماله، لكنها الكتابة هكذا متعبة ومؤرقة، ولا تأتي في كل اللحظات، وهي مع ذلك فتوحات.
الذي لا يعرفه إلا قليلٌ ممن مارسوا شأنها أنها أصعب مما يكون، فربما تأتي عليك أيام لا تستطيع أن تكتب موضوعاً واحداً، وربما تكتب مواضيع كثيرة إلا أنها لا تصلح للنشر، فليس كل ما تكتبه صالحاً للنشر، وهذه الحالة هي حالة عادية يمر بها كثيرون، وسيمر بها آخرون في عالم الكتابة.
نشعر حينما نقرأ لبعض الكتّاب بأصوات كتابتهم وأماكنها، ويرجع ذلك لعمق كتابتهم وتأثيرها على نفوسنا، فلم يؤثروا علينا بكتابتهم فحسب، بل صرنا نشعر بمشاعرهم ونتعرف على أحزانهم وأفراحهم من خلالها، فعلى سبيل المثال وأنا أقرأ للكاتب الكبير (الدكاترة) زكي مبارك أعيش لحظات سعادته وأحزانه، وأيام دراسته وتجوله في فرنسا، بل ما تعرفتُ على “فرنسا” وشوارعها وثقافة شعبها إلا من خلال كتابه “ذكريات باريس”.
حين تقرأ لزكي مبارك هذا الكتاب وكتابه الآخر الممتع في بابه الفريد في طرحه “وحي بغداد”، وهي صوره الوجدانية والأدبية والاجتماعية، فأكاد أتخيل ملامح وجهه، ويمكنني وصف جلسته، حركة يده، مكتبه، قلمه، كان في كتابيه عظيماً في طرحه، جريئاً في نقده، وما يميزه عن غيره صدقه مع نفسه والحديث المستمر معها قبل أن يكون هذا الأمر مع غيره.
ينتهز زكي مبارك كلّ حدثٍ لتوظيفه، فلا تمرّ عليه كلمة أو عبارة عابرة إلا ويقف عندها ويسجلها؛ إيماناً منه أنّ الكتابة عبارة عن كلمة، ولهذا من فرّط في الكلمة فرّط في مقال وكتاب، وكم ضاعت من الأفكار بسبب عدم تقييدها، وكم من أحداث سارية يضيع الاستفادة منها بسبب عدم الوقوف الجاد معها تأملاً ودراسة وكتابة.
إنّ الكلمة الواحدة ترشدك إلى عبارة، والعبارة تهديك لجملة، والجملة تأخذ بيدك لفقرة، والفقرة تزداد بفقرات، والمقال مكون من عدة فقرات، والكتاب الواحد مجموع من عدة مقالات، وإذا ما ضممت مقالاً إلى مقالٍ في نفس المعنى فيمكنك خلال سنة أن يكون لك كتابٌ كامل في موضوع واحد، أو في موضوعات متقاربة.
يعدّ التفريط في كتابة كلمة واحدة لمن يعقل تفريطاً في كتابة مقال، والتفريط في المقال هو في ذاته يؤدي إلى التفريط في كتابة كتاب كامل، فرأس مالكَ الكتابة، وبدايتها تكون في الحفاظ على الكلمة الواحدة.