المشهد المتكرر في 2020

د.علي زين العابدين الحسيني
لعلّ من المشاهد المتكررة التي لا تفارقني في عام 2020 صورة انشغال الناس في المواصلات العامة بالهواتف الذكية حتى صارت وسيلة المواصلات مكان لقاء بلا لقاءٍ، فهناك جمعٌ يلتقون دون حس أو شعور على عكس السابق، حيث كانت المواصلات العامة فرصة لبناء علاقات والتعرف على أصدقاء جدد، ومكاناً لانشغال كثيرين بالكتابة والقراءة، ولم يختلف الأمر كثيراً عند الأسرة الواحدة، فيعيش كل فرد في البيت الواحد مع هاتفه.
أصبح شعور الناس المسيطر عليهم أن الهاتف جزءٌ من حياتهم لا يمكن التخلي عنه، ويعدونه جزءاً من الجسد كاليد والرجل، فلا يستطيع أحدهم مغادرة البيت إلا بعد التأكد بوجوده معه، ولا غرو أن يستعمل الهاتف في كل زمان ومكان، بل وصل الحال أن ينشغل به سواء بالرد على اتصال أو رسالة، وهو في أماكن لا تليق بهذا الأمر، وأستحي هنا أن أكتبها.
سيطر الهاتف المكون من قطع حديدٍ على العقول سيطرة كاملة متكاملة لدرجة شعور الشخص بعدم الراحة إذا لم يكن بجانبه، وأما إذا انقطع الاتصال به لفترة أو لم ترسل له رسائل على العادة فيظن أنّ بهاتفه خللاً في الاتصال، وإذا سمع بأي صوت فسرعان وبدون أي شعور يشاهد هاتفه، ولا شك أنّ استحكام الهاتف على العقل بهذه الصورة هو نوع من الوسواس القهري كما يعرف في الطب النفسي.
هذه المشكلة تواجه كل دول العالم ففي مدينة “ياماتو” اليابانية، وهي مدينة تقع بالقرب من العاصمة اليابانية “طوكيو” شددت على هذا الأمر فمنعت المشاة نهائياً في هذه المدينة من استخدام الهواتف الذكية أثناء السير بعد إجراء دراسة تبين أن 12 في المئة من سكان هذه المدينة يستخدمون الهواتف أثناء المشي، وهو الأمر الذي وصفه عمدة المدينة بأنه “خطير”.
كان هذا وصفاً للمشكلة والظاهرة العامة التي تواجهنا جميعاً مع الاعتراف بأن استخدام الهاتف أصبح حاجة ضرورية في كثير من الحالات، ففيه من سرعة الوصول إلى المعلومات ما ليس في غيره، ومن التواصل المستمر مع أهلك وأصحابك ما لا يكون إلا باستخدامه، ولن نستطيع الابتعاد عنه رضينا أم سخطنا، لكن بإمكاننا -وهو ما ندعو إليه- ترشيد الاستخدام.
إذا اعترف الشخص بالمشكلة الحاصلة فلا بد من أخذ خطوات عملية للكفّ عن سيطرة الهاتف على حياته، وكل يختار لحاله الطريقة المناسبة له، فما بين تخصيص ساعات لليوم محددة للنظر فيه، أو وضعه على الصامت دائماً خصوصاً في أماكن العمل أو حين الانشغال بالحياة الخاصة، أو غلق الهاتف تماماً -لا سيما البرامج التي تستغرق وقتاً طويلاً- وفتحه عند الحاجة، ونحو ذلك.
مما يساعد على العلاج من مرض الانشغال بالهواتف القراءة الهادفة، وإشغال الوقت بما يعود على الشخص بالنفع، وممارسة الأنشطة الرياضية، والعزوفُ عن القراء أصبحت مشكلة عامة تواجه جميع الدول بلا استثناء في ظلّ قوة سيطرة برامج التواصل الحديثة، ويعاني منها الكثيرون، وهي عند غيرنا “أزمة”، وعند آخرين منهم مجرد “حالة”، لكنّها في واقعنا العربي المعاصر “ظاهرة”.
نصطدم بظاهرة الإعراض عن القراءة يومياً مع إيماننا بأنّ الأمة التي تستحق الاحترام والتقدم هي التي تجد في العلم والقراءة غذاءً روحياً ضرورياً لا يقلّ أهمية عن غذاء الأبدان، وهذا المسلك القويم يجب أن ينخرط في مساره كل طبقات المجتمع بلا استثناء، ولكلّ طبقةٍ مجالها التخصصي، وكتبها الخاصة بها.
أتمنى في العام الميلادي الجديد 2021 -وكم لنا من أمنيات- أن يقف كل إنسان وقفة جادة مع برامج التواصل الحديثة، فكم ضيعت لنا من أوقات لو استغل نصفها لتغيرت حياة الأشخاص إلى الأفضل.