أكلوا السمك.. وأكلتُ القطن !

صبري الموجي
عِشقي للسمك أيا كان نوعُه أو طريقةُ تجهيزه : مشويا أو مقليا أو في صينية أو غيرها عشقٌ تليدٌ وشديدٌ معا، لا أبالغُ إن قلتُ إن عشقَ جميلٍ لبثينة أو قيسٍ لليلى أو حتى عشق عنتره لعبلة، يتضاءلُ أمام عشقي لذلك اللحم الطري، ولي مع ذلك العشقِ مواقفُ تدعو للعجب أو للدهشة إن صح القول، فحدث أن دخل أبي- طيب الله ثراه – وقد لاح الشفقُ في الأفق علينا بـ(شَروةِ سمك)، وقال لأمي اسرعي بتجهيزه للعشاء، فلم تكن هناك ثلاجةٌ أو ديب فريزر لحفظه لغداء اليوم التالي، فأسرعت أمي تُسابق الوقت في تجهيزه وإعداده، طاعة لأبي من جهة، ورغبة في إسعادي من جهة ثانية، خاصة أنها تعلم مدى حبي للسمك، وانتظاره من المَرةِ للأُخرى، طالت هذه المرةُ أو قصُرت، حسب الظروف المالية للوالد.
وبعد تنظيفها للسمك ورميها رأسه وأحشائه للقطط، التي ربضت أمام باب الدار مُتنمرة ولها مواء، تنتظرُ نصيبها في تلك الوجبة الدسمة التي تحبها هي الأخرى، ولا أدري أهي أشدُ حبا لها مني أم العكس؟
أقول بعد أن فرغت أمي –رحمها الله– من عملية التنظيف، قامتْ بتقليبه في الدقيق وشرعت في قليه على (وابور الجاز)، ذي السيمفونية الموسيقية التي تأنسُ لها نفسُ كل جائع، وجلست بجوارها القرفصاء، أنتظرُ خروجَ (الطرحةِ الأولى)، لأقصَ شريط التذوق، وأحكُمُ أأفلح أبي في تلك الشروة أم جانبه التوفيق؟
وقبل أن تصل القطعة الأولى بعد اكتمال طهيها إلى إناء الغرف، كانت يدي أسبق إليها، فقمت بنزع السلسلة الشوكية عن شطريها، مثل جراحٍ أعملَ مشرطة في جسد مريضه، وبفصلِ الجلد عن اللحم، بعدها شرعتُ في الأكل، وأنا أتمايلُ تمايل النشوان أو من جلس يعُب من إبريقٍ مملوء بالسلافة المُعتقة حتى أصابه السكر.
وعلى مقربة مني جلست أختي الصغرى ترمقني بعينين متوسلتين، عساها أن تظفر بقطعة لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولكن هيهات لها أن تحظى بما أرادتْ، إذ كيف الخلاصُ لغزالٍ أحاطت به قبضتا قسورة، وأطبقت على عنقه أسنانُه؟
فلما أعيتها حيلُ إقناعي بمشاركتها لي فيما أطعم، أو حتى على الأقل تحظى بنصف نصيبي جرياً على قاعدة توريث الأنثى، جَبذَتْ أمي لتُقنعني بمشاركتها إياي، أو تُعنفني على (طفاثتي)، هكذا نطقتها بالثاء، فقد كانت (لدغة) في السين، أي تنطقها ثاء، ولم أكن أحسنَ حالاً منها، فقد كنتُ أنطق الراء لاما، والفضلُ للقرآن في تقويم لساني، واستقامة بياني، والطفس كلمةٌ عامية مصرية، يُوصف بها من يجورُ على حق أخيه، فلم تُصغِ أمي لدعوة تحريضها عليّ، خاصة أنني كنتُ (ديك البرابر)، ولا ترضي أمي بأي كلمة أو موقف يؤذيني، ولكنها وعدتها، بأن القطعة القادمة بمجرد أن يكتمل طهيُها ستكونُ من نصيبها !
وبينما أنا أتراقصُ وأتمايلُ تمايل النشوان، يظنني الرائي ممسوسا أو ملبوساً بعفريت من الجن، فقد كنتُ شبيها بـ( زرزور) في فيلم( أنكل زيزو حبيبي) عندما منحه عمه مدبولي باكو( شكلكلاطة) يقصد الشيكولاته، فإذا بشوكةٍ من سلسلة العمود الفقري للسمكة (تنحشر) في زوري، وتكاد تخرج بسببها روحي من جسدي، ولم تُفلح في إخراجها طبطبة أمي على ظهري، أو ضربات أختي الصغرى بكفها الصغير على صدري، ولا أدري للآن هل كانت ضرباتُ كفها محاولات إشفاءٍ أم تأديب ؟
وسريعاً أحضر والدي كيسا من القطن الطبي، وكوَّره كوراً صغيرة؛ ليقذفها في فمي، الذي أضحي مرمي لا حارس له، حتى نزلت الشوكةُ بعدما بلغت الروحُ الحلقوم، وكان نصيبي من هذه الشروة مجرد قطعة واحدة وكيس قطن، وفازت أختي بوجبة سمك شهية دون أن يكون لها غريمٌ، وحقا من صبر ظفر ولو بعد حين !.