2024
Adsense
مقالات صحفية

في الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد

د معاذ فرماوي

لم يستطع نور الظهيرة أن يخفي نور وجوه مريدي الشيخ صلاح الممتلئ بهم المسجد والمتحلقين حوله، ورغم تباين أنوار وجوههم قبل الدخول عليه، فإن نور وجهه قد سطع عليهم بعد جلوسهم معه، فأصبحت وجوههم جميعاً متجانسة في أنوارها، وكأنهم جميعاً الشيخ صلاح، فعم النور والسكينة الزاوية، وفي وسط الجالسين كانت عينا عادل مسمرتين نحو الشيخ، يرسل بريقهما رسائل متصلة من الحب الخالص، وكأنه ينتظر إشارة منه بأمر ما، والشيخ يوزع نظراته على مريديه مع ابتسامات حانية، وإذا وقعت عيناه على وجه عادل أشار إليه بيديه أن يصبر، فيومئ عادل برأسه طاعة له، ثم بدأ الشيخ الذكر مع مريديه، وهو يخطف نظرات سريعة للسماء ثم يبتسم، وما هي إلا لحظات حتى غادرت أرواحهم أجسادهم في رحلة علوية طاهرة، فإذا الوجوه قد غمرها نور مختلف تماماً عن الأنوار الأرضية، وقد كستها ابتسامات الرضا والسعادة وسكرة الحب، وكأنهم قد عادوا تواً من زيارة سريعة للجنة، وكلما ذُكر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- علت وجوههم مشاعر الشوق ثم تتحول هذه المشاعر إلى ابتسامة عريضة مبللة بدموع الشوق والحب، وكأنهم رأوا من اشتاقوا إليه وسلموا عليه وبادلهم السلام، وتنتهي جلسة الذكر وكأن الجالسين حلق نورانية، تتلألأ مع أرواح أخرى تطوف بالزاوية.
يشير الشيخ صلاح لعادل أن يقبل عليه، فيسرع إليه وعيناه مسمرتان نحو وجه الشيخ، ليجلس بين يديه، وقد أخذ نور وجه الشيخ بقلب وعقل عادل، فيحدث نفسه قائلاً إذا كان ذلك هو نور وجه الشيخ فكيف كان وجه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيبتسم الشيخ قائلاً “لو رأيته رأيت الشمس طالعة، وكلهم سُقوا من نوره”، ويجلس عادل متأدباً أمام شيخه في سكينة ووقار، مطأطئا رأسه ويرفعها من آن لآخر؛ لينظر لوجه الشيخ والذي يسأله عن حاله وصحته، وأحوال أسرته فيجيبه بصوت ضعيف خاشع، فهو يعلم أن العهد الظاهر عهد الشيخ، والعهد الباطن الحقيقي هو عهد الله سبحانه وتعالى، والشيخ ينظر لعادل ظاهراً لجسده وباطنا لقلبه.
لقنه الشيخ العهد، وعلى غير عادة المريدين، ظل عادل متسمراً مكانه شارداً ذهنه، ولم ينطق بكلمة واحدة، فتبسم الشيخ قائلاً “المهم أنك أتيت أخيراً ولو تأخرت، ولو كنت تركته يقبل يديك لأسرع الله بك إلينا”، فكانت كلمات الشيخ كسهام ثقبت خزان دموع عادل، لتنفجر من عينيه وتغرق جسده بعد قلبه، ويستسلم عادل لشلال دموعه استسلام الميت لمغسله، ثم يجهش بالبكاء قائلاً أغمريني وطهريني من إثم الإساءة للصالحين.
وينصرف عادل مغادراً مكانه، ووجهه متجهاً للشيخ تأدباً معه، وقد أضاء وجهه نورا انعكس على دموعه، فبدت كلؤلؤ ينساب من عينيه.
يصاب مريدو الشيخ بدهشة شديدة من كلمات الشيخ ودموع عادل، فيسرعون لعادل ويسألونه لماذا لم تشكر الشيخ، ولماذا كنت واجماً وماذا وراء كلمات الشيخ لك، لينفجر عادل في البكاء مرة أخرى، وتحمله الذاكرة سريعاَ إلى أحداث، طالما تضرع إلى الله أن يغفرها له، وأن يمحوها من ذاكرته، فهي مداد حزنه الذي لا ينضب، وألم قلبه الذي لا يبرأ، وضيق صدره الذي لا ينفرج، حتى أنها أفسدت عليه يوماً تمناه، وحدثاً طالما دعا الله أن يناله، وهو أن يتلقى العهد من شيخه.
يصمت عادل دقائق محاولاً وقف سيل دموعه المنهمرة، ثم ينظر لمن حوله نظرة خجل، قائلاً منذ ما يزيد عن خمس وعشرين عاما عرفت طريق التدين الزائف، وما إن قرأت بعض الكتيبات، وأطلقت لحيتي حتى نصبت نفسي إماماَ للمسجد، واعتليت المنبر وخطبت الجمع، وزينت لي نفسي أن أكون كبير المسجد، فلا متحدث ولا موجه ولا ناصح غيري، ثم بدأت أهاجم كل من خالفني، ولم أكن أعترف بأئمة الأمة، ولا مذاهبهم ولا عقيدتهم ، كل ما كنت أعرفه وأعتقده، هو ما قرأته في الكتيبات التي زودني بها أقراني في هذا الطريق، وسولت لي نفسي أن أفتش مكتبة المسجد، وأقوم بفحص الكتب وأمزق أي كتب تتحدث عن عقيدة ومنهج مختلف، عما أعتقده معتقداً أن كل ذلك باطلاً، وسمعت وأقراني يوماً أن مسجداً بجوارنا، يقيم حفلاً بمناسبة المولد النبوي، فاجتمعنا وخططنا لوقف هذا الشرك كما اعتقدنا وقتها، وانطلقنا إلى المسجد وقمنا بكسر كل ما قابلنا في الحفل، وأمرنا المحتفلين بإنهاء هذه الشركيات، ومغادرة المسجد فوراً، وكان من رواد المسجد رجلاً صالحاً، يدعى عمي سيد العبيدي متصوفاً، رقيق القلب كثير الذكر، فاتخذته وأقراني غرضاً لسخريتنا، حتى أننا كنا نسخر من كثرة بكائه أثناء ذكره وصلاته، رغم ما سمعناه من أحد أبنائه أن لسان أبيه لا يفتر عن الذكر، حتى أثناء نومه وكنا نبرر أحواله هذه، أنها من تلبيس إبليس.
يكمل عادل قائلاَ كثرت مشاكلنا، وضج منا أهل المساجد بالمنطقة، وكان عمي سيد كثير النصح لنا رفيقاً بنا، وكنا نرى ذلك ضعفاً منه وقلة علم، حتى دخلت يوماً المسجد متأخراً، فوجدت صوت إمام يشدو بالقرآن، من أفضل من سمعت تجويداً وصوتاً، وكانت المفاجأة بعد الصلاة أنه عمي سيد، وتعجبت إذا كان الرجل بهذا العلم وجمال الصوت، فلماذا لا يحاول التقدم للإمامة، فجالست الرجل فإذا به خزينة علم، وفهم وورع فأنتابني الذهول لأيام، ثم نصحني أقراني بالابتعاد عنه؛ لأن عقيدته فاسدة، فابتعدت وناصبته العداء أكثر، وكنت قد تزعمت أقراني وأصبحت أنا العقل المدبر لهم، ورغم ذلك كان عمي سيد وبعد أن ضجر منا، يهاجم جميع أقراني ويهددهم، لكنه ظل رفيقاً معي مبتسماً في وجهي، وبشكل لفت انتباههم مما دفع أحدهم أن يقول له، لماذا تعامل عادل بهذا الحب والرفق وهو من يخطط لنا، ويوجهنا وهو كبيرنا، فإذا بعم سيد يتجه نحوي، ويمسح على جسدي ويحاول أن يقبل يدي، فنزعتها منه نزعاَ ودفعته عني، وسببته واصفاً إياه بالمبتدع الأفاق المجنون، فابتسم مشيراً إليَّ قائلاً هذا سيكون صوفياً، فأنتابني وأقراني حالة ذهول، ممزوجة بهستيريا من الضحك والسخرية منه، ثم سببته قائلاً له لن أكون يوماً مبتدعا مثلك يا مجنون، فابتسم قائلاً بل ستكون في طريقة على رأس الطرق، فما كان منا إلا أن انصرفنا ضاحكين، وكنا كلما التقينا نتندر بهذا الموقف الغريب، ومن شرود وجنون الرجل.
تمر الأيام وأتنقل بين الجماعات والفرق باحثاً عن الحق، وضاق صدري بمن حولي، حتى ساق الله لي بعض الصوفية الصالحين بدون تخطيط مني فرأيت فيهم ومنهم، ما لم أرى من غيرهم وتعلقت نفسي بهم، ورأى أهل بيتي تحولاً جذرياً وإيجابياً، في سلوكي وفهمي للدين، وأراني الله منهم ما ثبت قلبي على طريقهم، فكانوا وما زالوا أفضل الرفقاء، ولكن حدث ذلك بعد خمس وعشرين عاما، وما أخرني كل هذه السنوات، إلا إساءتي للرجل الصالح عمي سيد العبيدي.
وإذا بالشيخ صلاح يقبل على عادل، وقد ظهر الحزن على وجهه قائلاً “يا بني أدفعت يديه عنك وهو يمسك بيديك، يحاول تقبيلهما” فقال له عادل نعم يا سيدى ، فقال “يا بني أقلت له ابتعد عني يا مجنون” فقال عادل وهو يبكي، وقد علا نشيجه نعم فعلت يا سيدي، فقال الشيخ “يا بني جفوتك مع هذا الولي، أخرتك عن كرامتك ربع قرن والله يا بني لو تعلم قدره لقبلت قدميه، ولو تركته يقبل يديك ثم قبلت قدميه لأسرع الله بك إلينا، ولكنت الآن من سادتنا”.
يعود عادل لبيته مبتسماً راضياً، بقدر الله مستغفراً من ذنب الإساءة للرجل الصالح، يفتح باب بيته فإذا بابنته الكبرى في انتظاره، قائلة له أنا في انتظارك وفي لهفة؛ لأروي لك رؤيا رأيتها منذ ساعتين، ويتعجب عادل من توقيت الرؤيا التي تزامنت مع وقت أخذ العهد من الشيخ، وتكمل ابنته قائلة جاء لي رجل طيب في المنام، أبلغني أن اسمه سيد العبيدي وقال لي “أبلغي أباك أنه بدأ متأخراً ولكنه وصل، ومن وصل اتصل ومن اتصل انفصل، ومن انفصل لا يرى في الوجود إلا المحبوب، فعليه أن ينسى سيد العبيدي والإساءة له، وقولي له أن من أرادك جذبك إليه، في الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد”.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights