تربية نبوية عملية
د. علي زين العابدين الحسيني
باحث وكاتب أزهري
نحن هنا في “المدينة” في “المدرسة المحمدية”، تلك المدرسة الربانية التي أسست دعائمها على التقوى، وانفردت بالأساليب النبوية لبناء الشخصيات الفريدة.
وفي المدينة المنورة ثلاثة عناصر: الأخوة الإسلامية، والتربية المسجدية، والآداب النبوية، وخلف هذه العناصر الثلاثة يلتقي مؤمنون من مهاجرين وأنصار يجلسون في المسجد، وهو مكانُ التعليم وميدانُ التربية، فيلتفون حول رسول الله ﷺ، ويتعلمون من علمه، ويتزودون من هديه، ويأتمرون بأمره، وينتهون عن نهيه.
هنالك جلس غلامٌ صغيرٌ في المجلس الرسولي، وهذا الغلام هو الفضل بن العباس -رضي الله عنهما- وقيل: أخوه عبد الله بن عباس، وكان هذا الغلام جالساً عن يمينه ﷺ، والأشياخ الكبار من أصحابه -رضوان الله عليهم- كانوا عن يساره.
أُتى للنبي ﷺ ذات يومٍ بشرابٍ فشرب منه، ولما كان الغلام عن يمينه استأذنه النبي ﷺ في أن يعطي الشراب للأشياخ من كبار أصحابه أولاً، لكنّ الغلام رفض معلناً حقه في الشرب قبلهم، وهو درسٌ من الدروس الحياتية في حسن إبداء الرأي، وعدم التخوف من التبعات، لا سيما إذا كان الأمر مشروعاً.
حينما أبدى الغلام رأيه بكلّ وضوح وسط هذه الجلسة التي تضم النبي ﷺ وأصحابه لم يكن إبداؤه عن هوى، حيث قال: “لا أُوثِرُ بنَصِيبِي مِنْكَ أحَدًا”، وهو دليلٌ على أنّ رفض الغلام كان لسببٍ لا لمجردِ حب الرفض، فبينّ العلة في عدم الإيثار، وأن الأمر ليس لكونه شراباً، وإنما هو لحلول أثر بركته ﷺ، فهو يرجو حصول البركة مما فضل من شرابه.
لم يقابل النبي ﷺ الرفض بالحَجْر على عقل قائله، أو إسكاته حتى ولو كان صغيراً، وهنا تظهر التربية العملية من رسول الله ﷺ، حيث لم يعنفه ما دام هذا الطلب حقاً من حقوقه، وما كان من رسول الله ﷺ إلا أنه “تَلَّهُ … في يَدِهِ” أي: أعطاه الشراب في يده.
أبدى الغلام موقفه بكلّ وضوح، وأما كبار أصحابه -رضي الله عنهم- ممن كانوا من أهل المجلس فلم يتغير موقفهم من الغلام، أو يعترضوا على الحكم؛ لأنهم يعلمون أن طلبه حقٌ من حقوقه، وبالتالي لا يفيد الاعتراض شيئاً، فأهل الحقوق أولى بحقوقهم مِن غيرهم، وهنا تظهر قيمة السلام النفسيّ عند الجميع.
تكون بعض المواقف العزيزة محل تنافس أرباب الهمم، فالغلام الصغير أدرك أنّ شربه من فضل الرسول فعلٌ يستوجب التنافس فيه، فأخذ قراره، واستقر رأيه، ولم يلتفت لأحد في الوصول لمطلوبه؛ لأنّ الهمة في هذا الوقت تستدعي أن يحظى هذا الشرف الذي لا يتكرر كثيراً، ولهذا لا يكون في مثل هذه المواقف تواضع أو نحوه؛ لأن بعض المواقف تستوجب الجزم والظفر بحظ النفس.
روى هذا الدرس العملي الإمام البخاريّ في صحيحه من حديث سهل بن سعد الساعدي -رضي الله عنه-: “أنّ رَسول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُتى بشَرَابٍ فَشَرِبَ منه، وعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ، وعَنْ يَسَارِهِ الأشْيَاخُ، فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أتَأْذَنُ لي أنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ الغُلَامُ: واللَّهِ يا رَسولَ اللَّهِ، لا أُوثِرُ بنَصِيبِي مِنْكَ أحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في يَدِهِ”.
وإنْ كان من درسٍ أخيرٍ من هذه التربية العملية، فليس أفضل من شجاعة القول لهذا الغلام الصغير، وقوته في التعبير عما في نفسه من نيل بركة سؤر رسول الله ﷺ، ثم تلك التربية النبوية العظيمة، التي عمت الكبار والصغار في احترام رأيهم، وتدريبهم على حسن التصرف.