تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

المعلم

خلفان بن علي الرواحي

تحت صبّارة البلدة، كان تعليم القرآن الكريم وبعض مبادئ القراءة والكتابة.
كنا نلتفّ حول المعلم في حلقةٍ كبيرة، وكان لديه مجموعة من المعاونين من الطلبة الذين ختموا القرآن الكريم. المعلم في قريتي الصغيرة (سيماء السفالة) لا تُنسب إلا لشخصٍ واحدٍ فقط، ذلك الإنسان البسيط في جسمه العظيم، وفي زهده من الدنيا، لم يكن معلمًا فقط، بل كان إمامًا بالمسجد وخطيب صلاة العيدين، ويتقدم المصلّين في صلاة الاستسقاء ويصلي على الأموات كذلك، وفي الزواج كان هو من يعقد القِران.
أذكره جيدًا لأنني تعلّمت على يديه، لم يكن معلمًا فقط وإنما مؤدبًا لنا، كنا نذهب إليه حيث يجلس في صدر تلك الحلقة الكبيرة، ومرّاتٍ يكون مستنداً على جذع الصبّارة الضخمة التي لا يعرف أحدٌ متى غُرست وكم عمرها، نقرأ بين يديه الجُزء المقرّر أن نكمله قراءةً وأحياناً حِفظاً.
الصبارة والسّور الطينيّ الذي يحيط بها لم يكن فقط مدرسة قرآن، وإنما تحت ظلّها كانت تُنفّذ العديد من الأمور، مكان العزاء، وقعد الفلج، وتوزيع عيش الوقف، كما كان توزّع تحتها معاشات الضمان الاجتماعي. أبي الأعمى كنت أقوده إليها لكي ينتظر سيارة وزارة الشؤون الاجتماعية سابقًا وسائقها الوالد (سنان) لم يكن سائقاً فقط، وإنما معاونٌ ومنظّمٌ، ينزل الموظف بحقيبة المعاشات ويبدأ في النداء على الحضور والكلّ يتقدم منه ويجلس القرفصاء أمامه ويستلم المبلغ نقدًا، ثم يبصم على الدفتر، وهكذا تستغرق العملية وقتًا من الزمن، ولكنه كان منظرًا جميلًا ترتسم الفرحة على وجوه أولئك البسطاء.
في مسجد (الحجرة) كان المعلم إمامًا لا يتقدمه أحدٌ إذا حضر، كنت استمتع بقراءته لسورة مريم، كان كثيرًا ما يرددها حفظًا، يجتمع في المسجد كبار السنّ أكثر من الشباب الذين يعملون خارج القرية، ونحن الأطفال كنا معهم.
على النافذة المطلّة على الطريق في ذلك المسجد الصغير ذو النافذتين والمحراب الصغير وعلى الزاوية الشمالية الشرقية كانت هناك فتحةٌ في السقف، وأسفلها درجٌ خشبيّ، عبارة عن قِطع من الخشب أجهل نوعها، قد يكون الهدف منها أن يصعد المؤذّن عليها عند رفع الأذان للصلوات الخمس، عند تلك النافذة كان يجلس المعلم ويقابله عادةً العمّ (ناصر) الذي كان لا يقرأ ولكنه كان يصحّح لنا عندما نقع في الخطأ ونحن نقرأ بالمسجد، وطبعًا ليس هناك مراعاةً للشعور لأنه كان يرفع صوته علينا دائمًا ويقول: تهيسوا وتقرزوا.
طبعًا كان المسجد ملتقىً، وأحيانًا تُتداول فيه بعض الأحاديث الجانبية، وقد تكون هناك بعض التعليقات وخاصةً من الوالد (علي) عندما يدخل وقد تأخر عن الصلاة وبصوته وعفويته، قطفوه العنب.
وبعد الصلاة يخرج الجميع وقد يجلسون في الصباح عند باب الحُجرة.
هناك في عريش الصوادر قصةٌ أخرى ينسجها المعلم، العريش الذي كان يجتمع فيه العديد من شيّاب البلدة يقضون أعمالهم، وقبل الظهيرة يكون هناك اللقاء، كنا ونحن صغارٌ نذهب إليه نجلس مع الآباء، تعلمنا منهم طريقة الجلوس في حضرة من هُم أكبر منا سنًا، تتلمذنا على أيديهم أساليب الحديث و(إتيكيت) تقديم القهوة وصبّها، كنا تحت الملاحظة والتدريب من الكل وهناك توجيهاتٌ قد تكون صارمةً أحياناً.
المعلم دائمًا ما يكون بجواره كتابٌ يقرأ منه للحضور، وإذا حضر أحدٌ منّا قد يكلّفه بالقراءة مكانه.
طبعًا لم يكن الجميع ذوو آذانٍ صاغية، ولكن المهم أن هناك قراءة بين الفَينة والأخرى.
القهوة في العريش كانت دائمةً، وبما أن العريش في المنتصف، فقد كان القادم والسائر يمرّ ويتقهوى والمعلم بين العريش والبيت في إحضار التمر. كانت أرض العريش مغطاة ببعض بقايا سعف النخيل (القسالة) وفُرش عليها الحصير، فكانت مريحةً للجالس، وبما أنه بين المَزارع فقد كان باردًا، والفتحتان العلوية والحدرية تساعدان في مرور الهواء من خلالهما.
كنت استمتع كثيرًا عندما يبدأ العم (عباد) في تقطيع الجح، لا يرضى أن يقوم بذلك العمل غيره، تجده ينقش القطع بالسكين، فليس هناك اختلافٌ في الحجم، كلها متساوية، والعيون كلها ترمقه حتى ينتهي من التقطيع الذي كان يأخذ وقتًا طويلًا وكأنه يقصد تعذيب الحضور وهم يشاهدونه يصفّ القَطع الواحدة تلو الأخرى على الصحن في متعةٍ.
بعدها تحوّل العريش إلى سبلةٍ في بيت المعلم وانتقل المرابطون فيه إلى المكان الجديد، وعادة المعلم لم تتغير، المجلس من الصباح يفتح بابه والدخول إليه لا يحتاج تذكرةً أو استئذان، والقهوة كما كانت دائمًا حاضرة، وقد تكون نفس الوجوه تحضر يوميًا إلا إذا خالطهم أحدٌ من المارّة أو الزائرين.
سبلة المعلم ظلّت مفتوحةً دومًا رغم انحسار بعض الأماكن المشابهة لها في قريتنا كالمنقل والنحوية.
تهدّم مسجد الحجرة وبني مسجد الحارة وانتقل المعلم إمامًا له، كان ذلك المسجد في ذلك الوقت في أطراف البلد ويحتاج لوقتٍ للوصول إليه، ولكن المعلم كعادته محافظٌ على وقت الصلاة فلا يتأخر عنها أبدًا.
لم أكن أصلّي في ذلك المسجد كثيرًا نظرًا لبُعده عن بيتي، ولكن كنّا نذهب بين الفينة والأخرى، أتذكر المعلم عندما كان يقف عند جِدار فناء المسجد وينتظر من يتوضأ في الفرضة وهناك من ينادي عليه بالداخل: (خلا معلم قيم الصلاة) وهو يرد بعفوية ولطف: (هذا جاي واحد ننتظره نكسب منه أجر)، كل هذا محاولة منه في غرس قيمة الصلاة وأهميتها، مع أن الكثيرين ينظرون إليه بسلبية.
ظلّ المعلم إمامًا لمسجد الحارة وتقدّم به العمر، وعندما بُني مسجد القرن قريبًا من بيته انتقل للصلاة فيه وعادته لم تتغير، الهدوء وعدم الاشتغال بالآخرين كان ديدنه.
عندما مات المعلم وانتقل إلى رحمة ربه فقدت البلدة شخصًا كان له أثره في حياتها، جنبات المسجد والسبلة كانت تبحث عنه، ترديد صوته بالآيات تجدها في كل ركنٍ من أركان المسجد مع رحيل المعلم، ولكن مازالت سبلة أولاد المعلم حاضرة، وكما يقال من خلّف ما مات.
بقيت السبلة ورحل المعلم ولم تعد كما كانت زاخرةً بالحركة؛ لأنّ الحياة تختلف الآن عمّا كانت عليه في زمن المعلم.

الاثنين 16/11/2020 م

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights