لن يخذلني ربي
حمد بن سعود الرمضاني
انتكست فجأة حياة أحمد رأسًا على عقب، بعد فترة من تعمقه ومداومة قراءة كتب علم النفس وروايات السحرة والجن، أصيب فجأة بصداع يكاد يقتله، وخمول سيطر على كل جوارحه، واسودّت الدنيا أمام عينيه، وأصبحت أفكاره تتلاطمها أمواج عاتية من التخيلات المربكة، ففضل الانعزال على نفسه، وتدنى مستواه الدراسي وتحصيله العلمي، بعد أن كان معروفًا بين أقرانه شعلة مضاءة بتفوقه العلمي، ومشاركته الواسعة في أنشطة المدرسة، وبين زملائه وأصدقائه في الحي، كان مهوسًا بالقراءة في معظم أوقات فراغه برغم صغر سنه، لكنه كان يقرأ كل كتاب يقع بين يديه وينهيه في وقت قياسي، لا يستكين عقله المتقد إلا بعد أن يقرأ كتابًا علميًا أو رواية أو كتاب شعر، أو أي من الكتب التي تطالها يده. عقله يظل متلهفًا في البحث والقراءة بين أرشفة الكتب، يشتم عبير مكنونها ويستمتع بروائع بساتين فنونها، وأوتار أشعارها التي تحرك أوتار قلبه، وتدغدغ حراك عقله، ينهل منها كالتهام الأرض الجافة لزخات المطر،
إلا إن مسيرة حياته لم تبقَ على حالها، ولم تستمر على وتيرتها، إن المرض النفسي الذي داهمه، وسكن جسده، وأقلق شباب تفكيره، وأخاف النوم من سواد عينيه، وخيَّم عليه الخوف بردائه المزعج، واكتست حياته بالإنزواء المرعب، مبتعدًا عن كل خيط يربطه بالبشر، ومجرد رؤيته لكتاب يتوق له خاطره، يحس بالضيق في الصدر ونفور بكل ما له علاقة بالبشر، لكنه كتم ما أصيب به من بلاء، وأخفى مرضه عن كل من حوله ليعيش وحده الشقاء، لأن المجتمع الذي تربى وترعرع فيه لا يرحم، فخاف من أن يوصم بالجبن والجنون، فضل العزلة والعيش مع نفسه بسلام، متوكلًا على الله وداعيًا ليل نهار، بأن يكشف الله غمته ويفرج كربته، وشغل نفسه بالرياضة اليومية لتعطيه التسلية والقوة والمناعة والصمود في مبتلاه، يزور البحر ليجد فيه بعضًا من سلواه، ويزيح عن نفسه المشقة والألم، يتأمل حركة كل موجة بين تقدم وانحسار، تطرق أوتار أذنيه بسمفونية عذبة بتداخل الأمواج وتكسرها على امتداد رمال الشاطئ، يتحسسه وهو يدغدغ قدميه العاريتين، محركة فيه نشوة الإحساس بجمال الطبيعة، تتسلق هذه المشاعر جسده الناحل، وتوقظ خلايا عقله الغافل، ترد له روحه الغائبة في صحراء المتاهات، تكسر القيود المكبلة لحركته اليومية وتفسح له طريق الرجاء والأمل. استمر به الحال لمدة سنتين ولم يعرف بمرضه أحد من العائلة أو الأصدقاء غير إن إنعزاله كان كفيلًا بأن يضع بعض التساؤلات التي كانت تنهال عليه من محيطه، لكنه يرد عليهم بأنني أريد أن أتغير من نمط حياتي المعتادة، أصبحت رجلًا وأريد أن أعتمد على نفسي وأرتب حياتي كيفما أشاء، وأحس أنني محتاج لهذا النمط من التجديد.
كعادته في كل ليلة يسهر مع النجوم المتلألئة على صفحة السماء، وقد شرد النوم عن أجفانه، فرش سجادته ليصلي الليل ويناجي ربه إلى ساعات الفجر، تنسال دموعه بين يدي الواحد القهار، ويرتعش جسده المنهك تحت قبضة الأفكار المريضة، والجسد المشتعل بجحيم القلق والخوف المريع، كان في هيئة السجود وهو يدعو ربه متضرعًا، متذللًا، منكسرًا، باكيًا لجبار السماوات والأرض، بأن يوقظ عقله النائم، ويحيي جسده الجامد، حتى أنهكه التعب، واستولت على عقله غيبوبة، أفقدته إدراكه لما يدور من حوله في عالم الأحياء، وامبرت له شواهد من عالم الغيب، انتزعت من صدره كتل حالكة السواد أغلقت شرايين نبضات جسده، وأوتار عقله وتفكيره، ومع صوت (الله أكبر) لمؤذن صلاة الفجر، يستفيق وعيه، وكأنه ولد من جديد، لم يصدق نفسه وقد رجعت أنفاس الحياة لتوقظ جسده من سباته، لتبث فيه النشاط والحيوية، وتلقى رياح الشوق الجارف بعودته للحياة الطبيعية. إنها قوة الله التي لا تغلب، وإرادته القاهرة ينزلها لمن أحب، لتكون بردًا وسلامًا لمن تمسك بحبله وارتوى بفيض ذكره، وآمن بملكوته ومشيئته.