تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
مقالات صحفية

من الجهات الـ “6”

أحمد بن سالم الفلاحي

shialoom@gmail.com

نتعارف فيما بيننا على أنّ هناك جهات أربع، وهي الجهات التي تُحدّد الكُرة الأرضية، وتنبني عليها خطوط الطول وخطوط العَرض، حيث الشرق والغرب، والشمال والجنوب، وعلى هذا الفهم تُبنى بقية المفاهيم والمعارف المرتبطة بهذه الصورة من جهاتها الأربع، ولكنْ يبدو أنّ المعرفة تتوسع أكثر في هذا الجانب، ولا تقتصر على رباعيتها هذه في تحديد جهات الكرة الأرضية، وإنما تذهب بعيداً إلى الجهات المحيطة بهذا الإنسان، فتأخذ بُعداً آخَر في الفهم وهو البُعد التعبّدي المُطلق، فقوله تعالى في سورة الأعراف: (قال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ).
تتبّعتُ بعض التفاسير حول هذه الآية الكريمة، والتي أجمعت على أن الله تعالى لم يذكر جهتا الأعلى (فوق) والأسفل (تحت) وذلك أنّ “تحت” تعني العبودية لله عز وجل، و “فوق” يعني الاتصال بالله عز وجل، فإذا كنتَ متّصلاً فليس بإمكان الشيطان أن يغويك، ولا إذا كنت معترفاً بعبوديتك لله بإمكانه أن يغويك “هكذا أجمع المفسرون، كما قرأت”.
بينما تتسع مساحة الاشتغال والعمل من الجهات الأربع لدى الإنسان:
من اليمين والشمال؛ ومن الخلف والأمام؛ حيث يتمّ توظيف كل النوازع الذاتية، وكل الطموحات الشخصية، وكل الممارسات صحيحيها وخطئها، تَساميها ودنوّها، صحّتها واعتلالها، ومن خلال هذه الجهات الأربع يجد الشيطان مداخله، فيذهب إلى غواية الإنسان وإدارة موارد الهلاك والدمار، وهي بلا شكّ، جهات تستوعب كل ما يدور من ذهن الإنسان من أفكارٍ وقضايا.
ما يهمّ هنا هو ضرورة حضور مُجمل هذه الجهات الـ (6) لدى الإنسان وحصوله على القيمة المعرفية لأيٍّ منها، فالمسألة ليست حياةً نعيشها، أو نفَساً نتنفسه فقط، وإنما المسألة مرتبطة بمعركةٍ حامية الوطيس، يعيشها كلّ منّا مع عدوٍّ تعهّد أمام الله سبحانه وتعالى أن يرابط على غواية الإنسان، ولا يترك له حرية الاختيار في تصرفاته، ولا حرية تقرير المصير فيما يريد فعله من عدمه، وهذه مسألةٌ جدّ مهمة، خاصةً إذا استحضرنا مسألة العُمر في توظيف ما نودّ القيام به، وفي جعل العُمر مقياساً لأعمالنا التي نسعى لأن تكون خيّرةً في حياتنا الدنيا، والدنيا كما هي معروفة ليس دار قرار.
والإنسان بطبيعته الفِطرية مخلوقٌ ضعيفٌ جداً، فأفعاله مرتبكة إلى حدّ كبيرٍ، لضعف إدراكه بالأشياء، ولقِصر معرفته بها، مهما بلغ من العلم مبلغه، ومهما تيسّرت له سُبل المعرفة مداها، ذلك لأنّ السعة الاستيعابية لديه تبقى محدودة، فوق أنه خائفٌ من حجم الضرر المتوقّع من ممارساته المختلفة، ولذلك عدّ من لا يخاف بأنه متهورٌ وليس شجاعٌ، كما يعتقد البعض، والحكمة دائماً تنتصر إلى التروّي وإلى التوازن، وإلى التمعّن، وإلى التبصّر، ومن يكون في غير هذه الصور؛ وهي الأقرب إلى السلم، يحتاج حقاً إلى كثيرٍ من المراجعة لنفسه، لأنّ النفس كما وصفها الله عز وجل (أمّارة بالسوء).
ولعلنا في هذا الموقف نستلهم من معنى “الحصانة الدبلوماسية” شيئاً لنسقطه على “الحصانة النفسية”، فنحن أحوَج إليها في ظلّ عدوٍّ متربّصٍ يحيطنا من الجهات الأربع، والحمد لله أنه لن يجرؤ على المرور من الجهتين الأخريين، وإلا احترق كما أشارت بعض التفاسير إلى ذلك، والحصانة النفسية ليست يسيرة بالصورة التي نتخيلها، فهي تحتاج إلى كثيرٍ من المجاهدة مع النفس، وإلى كثيرٍ مقاومتها، في ظلّ حياةٍ تتسع فيها الصورة الاحتفالية لجميع ممارساتنا اليومية، ومن يستطيع أن يسلّ نفسه من كلّ هذه التجاذبات، يقيناً فقد كسب الرّهان، ويستحق التهنئة والتبريك، أو المباركة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights