تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
فعاليات وأنشطة النبأمقالات صحفية

حديث الأربعاء – عقوبة صامتة

لولوة القلهاتي

في خضم أزمة اقتصادية خانقة ترتبت على جائحة كورونا، وموجة ثانية لتفشي المرض تضرب فرنسا والعالم وإغلاق الكثير من الأنشطة الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة نتيجة الخسائر التي تكبدتها، وفي ظل بطالة وتسريح للعمال نشأت عن إغلاق تلك الأنشطة التجارية والصناعية، وفي ظل ترقب حذر يسود الأسواق الأوروبية بعد انسحاب بريطانيا من مجموعة البريكس وتوجس من قدرة الاتحاد الأوروبي على الإيفاء بتعهداته المالية لأعضائه وخطة الإنقاذ المالي التي تعتمدها دول الإدخار تجاه دول الاقتصادات الضعيفة. وسط كل هذا البحر المتلاطم من المشكلات يأتي الرئيس الفرنسي ليوجه رفسة بغل لاقتصاد بلاده من خلال تصريحاته التي أثارت عليه عاصفة من الردود المستهجنة والقوية صاحبها حملة لمقاطعة المنتجات الفرنسية في كل العالم الإسلامي. وبالعودة للمشهد الذي أثار كل هذا الضجيج فإن ما حدث كان كالتالي:
معلم فرنسي يعيد طباعة كاركاتور نشرته صحيفة شارلي ايبدو الفرنسية تسخر فيه من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) ويقوم المعلم بالتهجم على الإسلام وبعدها يتعرض لهجوم عنيف من مهاجر شيشاني مسلم عمره ١٨ سنة أسفر عن قتل المعلم ذبحاً وفصل رأسه عن جسده.
في جنازة المعلم تحدث الرئيس الفرنسي مبدياً استياءه من الإسلام الراديكالي وموضحاً بأن الإسلام يعيش في أزمة ويجب تصحيحه لا مباركته، ومتوعداً بالقضاء عليه، بالاستمرار في حماية الحرية الفكرية والصحف ومعزياً أسرة الفقيد والشعب الفرنسي بأن المعلم المغدور كان مثالاً للفرنسي المؤمن بمبادئ الجمهورية الفرنسية العتيدة وأنه مات دفاعاً عنها.
بعدها تثور ثائرة المسلمين داخل فرنسا وخارجها غيرة على رسولهم وعلى دينهم. وبينما الموقف الشعبي يتأجج كان الموقف الرسمي لا يتحرك ولا يبدي ردة فعل باستثناء موقفين صدرا من تركيا وإيران.
إذا ما حللنا المشهد الدرامي السابق فإننا نجد حادثة فردية في مظهرها وحدثت بين المعلم والمهاجر ولكن إذا ما وسعنا دائرة الرؤية قليلاً فإننا سنرى عالمين مختلفين بقيم مختلفة تتصارع وكل منهما لا يريد أن يتفهم الطرف الآخر وكيف يفكر وكيف ينظر للمقدس عنده. الفرنسيين يقدسون مبدأ الحريات والعلمانية (الفجة) ولا يقيمون وزناً للآخر المختلف ولا لمقدساته ولا يعتبرون القداسة للأنبياء والأديان والرب والكتب السماوية شيء يستحق الوقوف عنده ناهيك عن الدفاع عنه ومنع إهانة أتباعه بالتعدي عليه، والفرنسي يرى في نفسه امتداد لمؤسسي الجمهورية وأنه يناط به في كل زمان ومكان رفع رايتها والذود عنها.
في مقابل الفرنسيين وجمهوريتهم وعلمانيتهم وحرياتهم العتيدة، هناك المسلمين الذين تتعاكس زاوية نظرهم للمقدس والدين والرسل والكتب السماوية. المسلم يرى في نفسه امتداد للنبوة وحامل لمشعل الدعوة وأن المبدأ الديني القائل (لكم دينكم ولي دين) هو جوهر الأخلاق الدينية والاجتماعية بحيث لا أحد يمس دين الآخر ومقدساته مهما كانت ولا يجوز له السخرية من الأنبياء والرسل الذين كانوا جميعهم همزة وصل بين السماء والأرض، وأنه على الغرب أن يحترم التوجه الروحي للناس جميعاً وأن على الفرد والصحافة والدولة أن لا يقربوا عقائد الناس بداعي الحرية المكفولة بالدستور، ولكنهم في ذات الوقت لا يبدون تفهماً هم كذلك لمفهوم الحرية التي يعتنقها الغرب ويريدون حياة إسلامية داخل أوروبا التي يعيبون عليها الحرية التي كفلت لهم هم مع غيرهم العيش داخل كيانات مسيحية يطلقون عليها العالم الكافر.
هناك ابتعاد عن جوهر الدين الإسلامي وأخلاقه الرسولية وعن جوهر العلمانية ومبادئ الجمهورية عند الطرفين.
والمثير في الأمر أن الرئيس الفرنسي تناسى تماماً الستة ملايين مسلم فرنسي وتناسى أن الدين الإسلامي هو الدين الثاني من حيث عدد أتباعه بعد المسيحية في فرنسا. وأن جلهم من الشباب وأن معظمهم يسكنون الضواحي التي اشتعلت بغضبهم ونيرانهم إبان رئاسة الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي. ولحداثة عهده بالسياسة وصغر سنه ولم يقدر الرئيس ماكرون أنه رئيس لجميع الفرنسيين بما فيهم المسلمين، وأنه مطالب بالكلام بلسانهم أيضاً.
تناسى الرئيس الفرنسي مئات الملايين من المسلمين حول العالم الذين أحسوا بالإهانة جراء حديثه ذاك وحمايته التي وعد بها للصحف التي تنشر رسوماً مسيئة للنبي وللمسلمين، لأنه يمثل فرنسا الرسمية. ولا يمثل نفسه كما كان يظن ربما. لذا فقد تنادى المسلمون جميعاً بأنه قد وجب معاقبة فرنسا الرسمية ممثلة باقتصادها من خلال مقاطعة البضائع والسلع الفرنسية والإيعاز للمسلمين في أقطار الأرض باتخاذ موقف وعدم الوقوف على الحياد. ومن وجهة نظري ووجهة نظر الكثيرين فإن الأفعال الصامتة كالمقاطعة هذه تؤتي أكلها بشكل أفضل كثيراً من ردود الأفعال الصاخبة والغوغائية الآنية.
كما أن الهجمات الإرهابية العدوانية على الأوروبيين مهما كانت مسبباتها ما هي إلا وقود يغذي الحقد والتطرف في كلا العالمين. وسيؤدي إلى إزهاق أرواح بريئة هنا وهناك دون جدوى ودون مسوغ قانوني ولا أخلاقي.
الرئيس ماكرون فيما يبدو كان يريد إيصال رسالة سياسية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد المناوشات الإعلامية والدبلوماسية التي حدثت بين بلديهما إثر إعلان تركيا التنقيب عن النفط والغاز في بحر إيجه مما أثار حفيظة اليونان التي استنجدت بالاتحاد الأوروبي وبفرنسا تحديداً، ولكنه للأسف الشديد أخطأ في عنوان المرسل إليه، فوصلت الرسالة معنونة باللون الأحمر إلى كل المسلمين في كل الدنيا.
لم يكن الرئيس الفرنسي ليجري المقابلة مع الجزيرة والتي بحسب قوله أنه اختارها لأنها الأوسع انتشاراً في العالم العربي والإسلامي، لو أن المقاطعة لم تكن مؤثرة وأن الشركات الفرنسية لم تضغط عليه ولاعتبار آخر غير مباشر كذلك، وهو قرب الجزيرة من خط الإسلام السياسي في العالم العربي وأن قطر الحاضنة للجزيرة مقربة سياسياً من تركيا الرسمية.
ولكن الرئيس الفرنسي لم يعتذر صراحة عن كلامه، وخرج من المقابلة ولم يعد بشيء. مما يعني أن الرسالة التي بعث بها المسلمين وصلت ولكنها لم توجع الاقتصاد الفرنسي.
في خاتمة القول لقد سجل المسلمون هدفاً في مرمى فرنسا الرسمية في مباراة خاضوها ببسالة وتصميم تحت شعار دائم وأبدي (إلا رسول الله). وأشد ما يتمناه أي مسلم ألا تخور العزائم والقوى وأن تستمر المقاطعة حتى صدور الاعتذار الرسمي من الرئيس الفرنسي وحكومته عن هذا التعدي والإهانة لأقداس المسلمين دون غيرهم من الملل والأمم، والاستخفاف بمشاعرهم الدينية والإيمانية.
وأختم بأبيات قالها الشاعر أبا عزة عمرو بن عبدالله بن أهيب مدح رسول الله وقد وجدتها في كتاب (مِنَحُ المِدَح) لابن سيد الناس :
من مبلغ عني الرسول محمداً
بأنك حق والمليك حميدُ
وأنت امرؤ تدعو إلى الحق والهدى
عليك من الله العظيم شهيدُ
وأنت امرؤ بوِّئت فينا مباءةً
لها درجات سهلة وصعودُ
وإنك من حاربته لمُحاربٌ
شقيٌّ ومن سالمته لسعيدُ

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights