(حديث الأربعاء) سمكة مزندران وتفاحة طهران
لولوة القلهاتي
“ما أعظم إيران وأعرقها وأكثرها غموضاً”!. كانت هذه العبارة لصادق هدايت هي المحفز الأبرز لزيارة إيران. العظمة والعراقة والغموض هي فعلاً ما تتمتع به تلك البلاد الساحرة.
زيارتي الأولى لإيران كان غرضها السياحة؛ حيث الوجهة المحددة كانت محافظة مزنداران، وهي المحافظة المعروفة بغاباتها وأنهارها وصيفها اللطيف، ووجود قصر رامسر أو قصر مرمر كما يسميه البعض بالقرب من بحر قزوين، وهو المقر الصيفي للشاه محمد رضا وعائلته. كانت أول مدهشات الزيارة بالنسبة لي أني دست على أرضية من المرمر، لأول مرة في حياتي، وأنا التي قضيت طفولتي أركض حافية القدمين، ولكن ليس على طريق المجاز كما هي حال بطلة أغنية كاظم الساهر ونزار قباني، وإنما على طريقة حال الحقيقة. حافية القدمين على التراب والحصى في القرية، أما الجروح التي أعود بها مساءً لأمي فهي أشبه بجروح جندي المشاة في معركة بين الفرس والروم حيث الأرجل متسلخة ومدمّاة. كان كل السائحين يسيرون دون اكتراث ما عداي، كنت أمشي بحذر وأنظر للأرضية المرمرية المصقولة، وكدت في تلك اللحظات المسحورة أن أؤلف أغنية شعبية. تخيلت أن دلال الفنانة الشعبية الشهيرة ستعجب بها وستغنيها لا محالة
ومطلع الأغنية يقول:
“مرمرني يووووه زماني كان تبا تمرمر
وشلني يوه حبيبي ومشيني ع المرمر”.
كتمت ضحكتي ولجمت خيالي الجامح وخبأت أغنيتي في حنجرتي ومضيت إلى الخارج، ألقي نظرة على أسماك كانت تسبح في البحيرة أمام القصر، وكانت المرة الأولى في حياتي أيضاً التي أشاهد فيها سمكة سوداء، وبقيت فاغرة فمي أتابع السمكة وهي تسبح في الماء غير مكترثة لفضولي من لونها وغرائبيته، وأظنها لو استطاعت الكلام لقالت لي غاضبة: ( شايفه قدامش عجبة واموه؟؟؟-بالهجلة المحلية- والتي تعني؛ هل ترين أمامك أعجوبة أم ماذا؟!).
في مزندران لفتت نظري حقول زهر الخزامى (اللافندر) الممتدة على مساحات شاسعة، والعجيب أنني رأيت أبقاراً ترعى خارج الحقول المسورة حيث نما الخزامى في المساحات المفتوحة المَشاع، وقلت في نفسي، هذه والله لمن الأعاجيب أن يباع الخزامى في بلاد العرب بغالي الأثمان، وفي بلاد العجم ترعاه الأبقار وتتغذى عليه الشياه السمان!. وتذكرت بيت شعر للشافعي يقول فيه:
والتِّبْرُ كالتُّرْبِ مُلْقَىً في أَمَاكِنِه
والعودُ في أَرضِهِ نوعٌ مِنَ الحَطَبِ.
وخطر في عقلي المنتعش بمنظر الخزامى ورائحته الزكية المنتشرة في الأرجاء، كيف يكون طعم ورائحة حليب البقرة التي تغذت على الخزامى يا ترى؟!،
وتمنيت لو أتذوقه لتكتمل الدهشة.
أما طهران فقد خصصنا لها اليوم الأخير من الرحلة فكانت وكأنها قد علمت من أي بلاد قدمنا إليها زائرين، فرحبت بنا على طريقتها بجو حار وهواء جاف في لفتة موفقة لتهيئتنا عند العودة لبلاد الربع الخالي. خصصنا يومنا الذي قضيناه في طهران لنزور قصر جولستان (كاخ جولستان) بالفارسية- ومعناه قصر الزهور-، الذي عاشت فيه الملكة فرح بهلوي وتوجت فيه كإمبراطورة والتي كنت قد قرأت مذكراتها وتهيمت بها قبل الزيارة.
أما القصر أو مجمع القصور بالأحرى؛ فهو الآن تحول إلى مجموعة متاحف تضم بين جنباتها بعضاً من تاريخ إيران من الدولة القاجارية وصولاً للبهلوية بحسب الأسر الملكية التي سكنت مجمع القصور ذاك الذي شيده السلطان ناصر الدين شاه في القرن السادس عشر الميلادي. ثم بعد خروجنا من جولستان قضينا بقية النهار نتسكع في برج الميلاد الرائع. الذي شُيَّد في الأصل كبرج للاتصالات، وتم إفتتاحه في العام ٢٠٠٨م، ويضم حدائق معلقة ومطاعم ومقاهي وصالات سينما وصالات عرض متعددة الأغراض ومحلات لبيع التحف وسوبرماركت وفندق خمس نجوم.
قضينا في البرج وقتاً لطيفاً وتناولنا الغداء في أحد مطاعمه.
في البيت الذي استأجرناه في طهران للمبيت وقضينا فيه ليلتنا الأخيرة، قابلتني شجرة تفاح أخضر مزروعة في البيت المجاور تمد أغصانها لتطل من الجدار على حوش منزلنا المستأجر. يتدلى منها غصن بعيد يحمل تفاحات صغيرة لونها أخضر يسر الناظرين، وكاتبة هذه السطور جاءت كالمقذوفة الحارة من المناطق القاحلة الجرداء ولم تشاهد التفاح في حياتها إلا في الكراتين المنضدة عند باعة الفواكة، أما هنا فقد رأيته رأي العين. الصحراء التي تستوطنني كانت تنط في الحوش السبع نطات؛ كي تقطف تفاحة من الشجرة لتجرب الشعور بأن تمسك بتفاحة خضراء طازجة تقطفها من أمها، وتدفع بها إلى فمها دون المرور بأسطول المصدّرين والمستوردين وباعة الكراتين. ولكن للأسف لم يساعدني وزن الفيل ولا طول النملة على إنجاح المهمة وبقيت ألوك غضبي وأبلع لعابي الذي سال على تفاحة طهران دون جدوى.