قَلبي هُناكْ
ضحى بنت علي المنذرية
أبوحُ اليوم بكل ما في داخلي بروحٍ صادقة “أن أكتُب” أعني أن أُعلن عن الحرب التي قد كُنتُ أخوضها يومياً،أن أُعلن عن مدىٰ تأثير الألم الذي قد هاجمني،وأن أتحدث عن تلك القوة التي وهبها الله لي. بفضل الله وبفضل إيماني بقوله تعالى “إنَّ الله معنَا”، وإنَّ الحياة بِكُل مُجرياتِها ستَهون هكذا القُرآن يدعوك وأنتَ في لُج الُتعب، وتُصارع قلبك وتنهمر بالبُكاء في كُل ليلة.
أنا الآن أعيشُ داخلَ نصٍ ستكتبُه يدي بِكل إيمانِها بالربّ بأن تلك الأيام “ستمضي” أخذتُ دفتري اليومي الذي كان يُلازمني دائمًا وبدأتُ بالكِتابة، ورحلتُ بفكري نحو ذلك اليوم الذي قد نزع مني روحي، وسجّلت فيه كل الذكريات الهاربة من ذهني.
تحديدًا في السادس عشر من أُغسطس، أُطرِقت أبواب منزلي ذلك اليوم بالحُزن، ولِأول مرة أرى أخي الأكبر يشهق بالبُكاء ودموعه تذرف دون توقف ويُنادي بأبي أتسمَعُني؟! أنا هُنا حبيبُك الأول، صديقك الأبدّي، ابنك المُخلِص! أشعُر وكأن أحزان سنيني الـ٢٠ قد تراكمت في يومٍ واحد طويل، لا شيء قادر بأن يصف تلك الصدمة الأولى، حينها نامت الصخور على باب قلبي المُنكسِر، دموعي أصبحت كحمم البُركان عند نزولها، تشتتُ يا أبي لقد مُت مِن الداخل، ماذا أقول ولِساني شحيحٌ المواساة، عقلي يا أبي الحبيب من حقيقة الفقد الأليم قد هُلك. لففتُ ذِراعيّ بين أرجُلي وأحنيت رأسي فوق رُكّبتيّ وبكيتُ بِحُرقةٍ هل حقاً مات أبي؟! لقد أهلكني الحزنُ، اشتقتُ لِملامح وجهكَ وتقبيل تلك اليدين الأمينة، يُحدثوني عن الاشتياقِ فأندفع بُسرعة فائقة بالقول بأنها كالنار التي ورِخت في الضلوع، كيف لي أن أتفادى كُل هذه النيران الواقِعة على أطراف قلبي المُنكسِر؟
أُثقِل على قلبي خبرَ رحيلُك، كُل ساعة كانت تُساوي يوما، دقات قلبي أصبحت تنبِض بِسرعة فائقة ما إلى الحد الذي جعلني أشعُر بأنني سأُلحِقُك، أغمي عليّ ، عندما استيقظتُ وجدتُ نفسي بين سرير المشفى المُخيف،حينها التفتُ مُرعبةً أنظُر إلى هاتِفكَ البسيط الذي كان يحمل صوتكَ الدافئ بين حناياه، يا لها مِن لحظاتٍ مُرعِبة تُوقِظُ فِي أنفُسنا لهفة الحنين والاشتِياق كُل ثانية…قد غبت عني، وغاب وجهكَ ولكنكَ لم تغب لحظة عن البال، دائماً أقف بِجانب نافذتي وأتساءل أين المنقذ لمن عاش غريقا في خضم الذكريات؟ إنني أتحدث عمّا قطعتُ فيه آلاف الأميال مِنَ الحُزن والتحدي بأنني سأنجو في النهاية، أتحدث عن حُب يعيش بِداخلي مُنذُ الصِغر، أتحدث عن حُب كلمة أبي، وفُقدان الشُعور بجمال هذه الكلمة مِن بعد رحيله.
حين أتذكر ذلك اليوم الذي سافرت فيه الروح مني، تضيق ملامحي البريئة أمام الذكريات النائمة في مُخيلتي المُتعبة.
تلك الصورة الأخيرة التي التقطتها لك قبل رحيلكَ بيوم، كانت تحمل هدوءًا لم أشهده من قبل، حفظتها في هاتِفي الذي يُزاحم تفاصيل أيامي، كُلما نظرتُ إليها تُمطر عيني بالبُكاء شوقاً إليكَ.
عن ماذا أُحدِثُك يا تُرى!
عن حُبي الدائم لِتلك العُيون؟
أم عن قلبي الذي هُلك من الفقد!.
يكبر الطِفل بعد موت والديه، هل أنا حقاً كبِرت يا أبي؟
ولكن إلى الآن أنا ما زلت طفلة أتفقد وُجودكَ بين جُدران المنزل، بالتحديد بين زوايا الغرفة التي جمعت شملنا وأصوات الفرح بيننا، وكأن تلك الغرفة كانت هي مهربنا الوحيد من الخوف وضجيج هذا العالم المر، كانت الأنس في وقت الحزن؛ لأن يوجد بها قلبكَ ورائحتكَ وصبركَ وقوتكَ. كانت تحوي صراعاتكَ، بينكَ وبين أطراف الليالي الموحشة، وهدوء العالم الكئيب، ولكنكَ كنت تصمت لكي نستمد منكَ القوة بلا أي ضعف.
ماذا لو يعود الزمان يوماً؟ والله بأني لن أعصي لك أمراً مهما كان ثقيلاً عليّ، ماذا لو يعود وأفتح عينيّ كُل صباح على وجهِكَ البشوش، ماذا لو أحكي لكَ عما يُحزن قلبي، وعن ضياعي في هذا المُجتمع الباهت، وأخُبركَ عن ملامح وجهي الشاحب
الذي أصبح بلا نور من بعد رحيلكَ، لأنني أشعر بالشتات والضياع في عالم الفقد. ماذا لو الآن كُنتَ بِجواري ونحتسي القهوة ونتبادل أطراف الحديث معاً؟ ماذا لو نكتُب أبيات شِعرٍ طويلة وتُداعِبني ضاحِكاً مَن سينتهي من الكِتابة أولاً؟ ماذا لو أُقبِل تِلك اليدين الدافئة وتُحدثني عن الأمان؟ ماذا لو تُعانِقني عندما تشعُر بأن الحياة قد ضاقت عليّ، ماذا لو رُغم نزيف قلبي أتكئ على ركبتيكَ وتمسح على رأسي قائلاً: أنا هُنا يا طفلتي إياكِ أن تشعُري بالحُزن، أخبريني من سرق الضحكة من على شفتيكِ الجميلتين؟ من أطفأ نُور تلك العُيون البريئة؟ من جعلكِ تحتضنين السرير طويلاً؟
دائماً أُظهِر عكس ما يُظهر من ملامحي الهادئة، اُخبئ الحُزن بين زوايا قلبي ولكن تُفضحني نبرتي عند البدء بالحديث عنكَ، رغم ذلك فإنني أُقابل الحياة بجُرأة مُخيفة، وأناقش من حولي بقدرة مهيبة عن أسوأ شُعور من الممكن أن يعيشهُ الإنسان.
إنني أدركُ جيدا يا أبي بأن “ربي ما أبكاني إلا لأتلذذ بطعم الفرح، وما حرمني إلا لُيعوضني، وما أخذ مني إلا لِيُعطيني، وما جعلني أقطع طريقاً طويلاً ومُظلماً إلا لُيُعلمني أن الشمس تغيب وأن من الضروري أن أحمل نوراً في قلبي”.
في يومٍ من الأيام قال لي أبي: يا ابنتي لا تتركي للفشل ساحة، واصنعي من الحلم واقعا. لذا قررت أن لا أدع لليأس محل، وأُحارب حزني لكي أنجو، ومن التعثر والفشل أتعلم، وبعد كل ألم أصبح أقوى. أكملتُ الطريق إلى حُلمي دون النظر إلى الوراء، ومددتُ يدي نحو النجاح، وصنعتُ لنفسي ملجأً لكي أهرب إليه دائماً وكانت هي الكِتابة حول ما يجول في ذِهني.
يجب أن تطمئن يا أبي بأنني هُنا أمضي وراء حُلمي، بالتأكيد، بالقُرب مِنكَ، أستمد القوة
والصبر منكَ.
هناك الكثير مما يجعلكَ تشعر بالحنين والشوق لكل ما كان وكل ما فات، يا لها مِن لحظاتٍ مُرعِبة تُوقِظُ فِي أنفُسنا لهفة الحنين والاشتياق.
ولكنني أمتلك القوة لِإخبار العالم بأن الحياة ستستمر بقوة أكبر من بعد أسوأ لحظة في العمر، ومن بعد اللحظة المخيفة التي لم نتوقع حدوثها. إلا أني قوية بِما يكفي لأكون فخورة دوماً بنفسي، لم يكُن الأمر عادياً، واجهت ضعفي وصنعت من الألم قوة. ومن بعد تشرّب القوة بدأت أنظر للحياة بنظرة رضا دائمة، وأنه يوجد لدي الكثير لأقدمه للحياة بكل حب.