التنشئة الوالدية: مسؤولية والتزام بروح العصر
علي بن مبارك اليعربي
من طبيعة البشر السعي للتفرد والتميز في كل شيء انطلاقا من أسلوب تفكيرهم وانتهاء بنتائج سلوكهم وردود أفعالهم جراء المواقف المختلفة التي تعترضهم في حياتهم اليومية، وفي الغالب هذا جل ما يرغبون إيصاله لأبنائهم وأحفادهم من بعدهم، وأيضا ليكونوا متميزين ومتفردين أحياءً كانوا أو أمواتا بحيث يبقى أثر تميزهم وتفردهم علامة فارقة، وسمة تميزهم عن غيرهم.
لهذا تستحوذ التربية عصارة فكرنا، مجتمعا كنا أو أفرادا، وينصب كل اهتمامنا بتربية الأبناء وكل منا يسعى بأن تكون تربيتنا لهم صالحة؛ تجعل منهم أفرادا قادرين على التوافق النفسي والاجتماعي، ويشقوا طريقهم بشكل متوازن بحيث يعتمد عليهم ويعتمدون على أنفسهم في تحقيق تلك الأهداف والغايات المرجوة منهم.
ومع أن هذا السعي يبقى مستمرا نتوارثه جيلا بعد جيل، تجارب وخبرات متراكمة وشواهد ونماذج عشنا أيامها ولامسنا واقعها وكنا ولا زلنا نجني ثمارها، ونستفيد منها في حاضرنا، ولم يكن ذلك إلا نتاج جهد جيل راحل قدم الكثير والكثير رغم شظف العيش وقساوة الحياة في ذلك الوقت. إلا أن هذا لم يكن ليبعدهم عن مراقبة فلذات أكبادهم وتربيتهم التربية الحسنة، وليس هذا وحسب بل وإشراكهم رغم حداثة سنهم في تحمل أعباء الحياة.
وكل ما تقدم ذكره من استحسان بما قام به السلف ومارسه من فنون تربوية لإيصال حاضرنا إلى بر الأمان لا يعني أننا قادرون على فعل ذلك مع أبناءنا بتلك الأساليب والطرق التربوية، والتي تم ممارستها علينا، ولا أعني بالثوابت التربوية منها فديننا الحنيف كفيل بترسيخها طالما جعلناه منهجا قويما واقتفينا أثره… أما متى؟ وكيف؟ ولماذا؟ وأين؟ فهذا ما يجب علينا وعلى من يأتي بعدنا تعديل نمطه، وأسلوب تعامله مع أبنائه حسب مقتضى الحال، فهناك فرق شاسع في طرق التربية و أساليب التعامل مع الأبناء مقارنة بالماضي القريب حيث كانت القسوة والشدة من أنجع الأساليب التربوية، و لم يكن الأب هو ولي أمرنا وحسب، بل يتشكل لكل طفل مجلس ولي الأمر يتكون من أي فرد بلغ سن النضج في العائلة، يشمل العم والخال مضافا إليهم الجار وكل من يمت بصلة من قريب أو بعيد للأسرة، ناهيك عما يمثله المعلم من دور في حياة أفراد مجتمعه، فمن مسماه ندرك الأسلوب التربوي المتبع في تلك الحقبة من الزمن، فكونه معلما فهو المؤدب في المسمى أيضا. وكل ذلك تحت إشراف الوالدين، يعتمدان ذلك الأسلوب لأنه نظام مجتمعي متبع- شذ من حاد عنه-، وأما في عصرنا الحاضر وفي ظل العولمة بمفهومها الواسع أصبح من الصعب اتباع ذلك الأسلوب، ولا يعني ذلك التخلي عنه بل البحث عن بدائل وأساليب تربوية حديثة مع إعادة صياغة الطرق والأساليب السابقة بما يتناسب والمستوى العمري والإدراك الذهني والفكري لدى الأبناء، فالتعامل بالرفق لا ينافي استعمال العقوبة عند الحاجة إليها.
ومن الأساليب التي بلا شك تناسب جميع المخلوقات وتتبعه كل دابة حية لتربية أبنائها ألا وهي القدوة؛ أي التربية بالنمذجة وهي أفضل وأسهل عمليات التربية والتنشئة على الإطلاق، فهم يتأثرون بما نقوم به نحن كآباء ومربين، لهذا فإن مصاحبتهم وفتح قنوات الحوار معهم بين الحين والآخر، وإشراكهم في بعض الأمور الحياتية، وإكسابهم خبرات تساعدهم على تحمل المسؤولية، ومن الأساليب التي يستخدمها الآباء والمربون لتربية أبنائهم المتابعة المستمرة – وهذا إجراء متبع منذ القدم -فمسبعات التربية قديما هي مناسبة ومواكبة للفكر المعاصر حسب ما قيل في التربية (لاعبه سبعا وأدبه سبعا وصاحبه سبعا ثم اترك حبله على غاربه). فالمتابعة ذات أهمية قصوى في العملية التربوية ولا يجب أن يتنصل منها أي منا كما يفعل البعض ـ بحجة المشاغل وضغوطات الحياة- حتى يكاد دور الواحد منا يغيب تماما، إلا أنه في بعض البيوت أحيانا نجد منقذا لموقف الأب حين نحظى بأم متابعة لأبنائها قد تتمكن من تربيتهم التربية الصالحة رغم ضعف تأثير ذلك عليهم لأن الأم في الغالب يقتصر دورها في البناء الجسمي، والمساهمة في نمو الجوانب العقلية والنفسية والوجدانية والروحية عكس تأثير الأب في تنمية تلك الجوانب في حياة الأطفال وبالأخص الجوانب السلوكية والانفعالية، والتي إن مارس الأب دوره بفاعلية، فإن تلكم الجوانب ستجعل من الأبناء قادرين على التوافق النفسي والاجتماعي.
خلاصة القول إن تلك الشعارات التي كانت تتردد على أسماعنا- أقوالا وأمثالا- تدل على ما يجب أن يكون عليه الأبناء مستقبلا من سلوكيات وقدرات ومهارات تؤكد أنه فعلا ابن أبيه ويقال: من شابه أباه فما ظلم، وحتى الأعمال والمهن كانت تنتقل بالوراثة وكأنها حكر عليه لا يمكن لغيره ممارستها ولا حتى مجرد التفكير في امتهانها.
نعم عزيزي قد يكون ذلك الفكر يصلح مع جيلك وجيل آبائك. أما اليوم… حذار من أن تطرق باب هذا التفكير، فأنت في خضم التربية الإلكترونية وما يطلق عليه (بالعالم الافتراضي)؛ أي أن كل ما يحيط بأبنائك يغرس في نفوسهم قيمة، فما عليك عزيزي سوى توجيهها للوصول بها معهم إلى بر الأمان، فأنت موجه في العملية التربوية المعاصرة، ولتعزيز دورك وحتى تكون ناجحا بكل المقاييس ما عليك إلا أن تكون الأقرب لهم؛ حينها يسهل الأمر عليك في تربيتهم التربية الصالحة.