بيروت
فتحية الفجري
مدينة غافية على زبرجد سُفوح لُبنان الخضراء، ولازَوَرد مياه البحر الأبيض المتوسط، وفي كلّ صباح شَتوي تتلفّع المدينة بالثلج المتساقط من السماء بِتمَوّج.
منظرٌ جميلٌ لتلك المدينة الساحرة، بمرفئها الفوّار من حركة السّفن والعبّارات، وأصوات العاملين هناك في الشحن والتفريغ، يندهش المارّ من هناك بهذا المشهد الأخّاذ.
تجد المباني ذاتَ القِباب مُتناثرة هناك، والتي عُرف عن جمالها وهندستها وبيوتها العتيقة، الشاهدة على الحروب الأهلية والاغتيالات والنّكبات منذ ٧٥ عاماً، ولا زالت تلك الأرض صامدة -بالرغم من كل شيء -في صخَبها وحركة أهلها.
وعلى حِين غرّة بدأ ذلك اليوم بتصاعد دُخَانٍ بلونٍ أبيض، تلاهُ صوت انفجار مُدوّي من ذلك المرفأ، كقنبلةٍ ذريةٍ كما وصفه أهلها، مُحْدِثاً غيمةً بلونٍ قُرمزيّ، ونار كأنها خرجت من فوهة بركانٍ ثائر، سَحق الانفجار كلّ شيء أمامه في ثوانٍ وأحاله رماداً في الفراغ.
ذُهولٌ قطع الأنفاس لبرهة، استيقظ الجميع هَلِعِين، فاغرة أفواههم، مفتوحة أحداقهم من هول الصدمة، ونَحيب الأُمهات، وأنينُ المصابين والمحتضرين، أفاقوا من صدمتهم مُزلزَلي الأرواح.
رُكام، لونٌ قرمزي يكسي الشوارع، أطفال شاخوا في غضون ثوان، ووجوهٌ تسبح بالدماء، عيونٌ جاحظةٌ لمْ ترمش، وابتلع الفزع والهلع ابتسامتها، سواد و دمار وَرُكام يكتسي المكان، أحجار مُتفحّمة، هياكل مبانٍ بالية، بقايا مقاعد وسيارات وشاحنات محترقة، دعائم وأسقُف متداعية تنتأ من بين الرماد، نوافذ وأبواب عارية، وجوهٌ شاحبة.
ادلهمّتْ سماوات المدينة بالدُّخَان والرماد والغبار والغازات المنبعثة؛ نتيجة الانفجار المُفاجِئ.
نامَ الجميع على انفجار بيروت، إلّا هي بقيت مستيقظة مع أهلها على كابوسٍ مُريعٍ، غارقة في صمتٍ مُطبق.
وجوهٌ مُكفهرّة غاضبة على من كان لهُ يَد خَلْف هذا الدّمار، وحزنٌ عميق، وصمتٌ أصمّ، وعيونٌ محترقة بفِعل الدّموع المُلتهبة على حصيلة الأرواح والمصابين.
مرّت عَليّ مشاهد كثيرة، منها عَروس الانفجار في ليلة حُلمها، سيدة البيانو التي تركت الرُّكام والدّمار محيطاً بِها وأخذتْ تعزِف إحدى السمفونيات، أرادَتْ أنْ تُعيد الأمل والحياة بالموسيقى والأغنيات، تُعيد الصمود لبيروت وبيوت بيروت وأنهار وجبال وبحر بيروت الجميلة.
يومٌ طويلٌ مَرّ عليها وبقيَ بها جُرح لا يندمل، لكنّ بيروت ستعود قويةً فتية يانعة، ستُزهر مِن جديد بموجها الأزرق وبِساطها الأخضر، ستنبت الجنائن من جديد.
ستعود بيروت” كزهرةِ لوزٍ في نيسان…”، ستقوم من تحت الرّدم، ستقوم ثائرة من حزنها لتؤكد “أنّ الثورة تُولد من رحِم الأحزان”.