ماضي الطُّلّاب وحاضِرهُم
د.علي زين العابدين الحسيني – باحث وكاتب أزهري
كان صِبْيةُ الكَتاتيب في قُرى مِصر ونُجوعِها فيما مَضى يُنشِدون حين الانتهاء مِنْ دِراسَتهِم وتأهُّبِهم للعودة إلى منازلهم هذه المقولة: (سيدنا غفر الله له، أبواب الجنة مفتوحة له)، ويَستَمِرّون على هذه الحالة مِنَ الدُّعاء لِسَيّدهم ومُعلّمهم حتى يَصِلوا إلى منازلهم.
هذه المَقولَة تَوارَثَتْها الأجيال، فأخَذَها الصغيرُ عَن الكبير، وهُو مَنهجٌ عامّ لِحَفَظة كِتاب الله في قُرى مِصر المُحافِظة على تعليم كتاب الله وتدريسِه، يُجسّد فيه الطّلاب الصّغار قيمة المُعلم، ويُظهِرون حُبُّه، ويُشيعونَ تقديره، ويُبرِزون جهده؛ إذِ ارتبطتْ حُرمة المُعلم فيما مضى بِحُرمة العِلم.
ذهَب هؤلاء الذين يُعطون المُعلم كامِل التقدير والاحترام، وذَهبَ الطلاب الذين ارتبطوا بمُعلّمهم ارتباطًا قَويًا، وأتى آخَرون لا يَخفى حالهم على الجميع، حيثُ تَغيّر الشكل العامّ، واختلفتِ الأخلاق، وتباينتْ الرُّؤى في المَدرسة والمُعلم والتعليم.
حاضِرَنا:
مَدارِس فاخِرة ذات أبنيةٍ وغُرُفات، وحِصَصاً مُرتّبةً على أوقات، وكُتُب ومَناهِج طَبَعَتْ أفضل الطّبعات، ودَرَجات وَوظائِف واختبارات، لَكِنّ الصِّلَةَ بين المُعَلّم وتِلميذه مَقطوعة، والصُّحبة بينهُما مَنسِيّة، فلا يَذكُر الطالبُ مُعَلّمَه، ولا يَعرِفُ المُعلّم تِلميذه، وإنْ حَصَل بينهُما مَعرفةً فَهي مُؤقّتة، سُرعانَ ما تَزول بانتهاء العامِ الدّراسي أو الخروج مِن المَدرسة.
ليس هذا غريبًا، الغريبُ أنّ كثيرين مِنّا يفرحون بِما وصلَتْ إليهِ حالُ المدارس، ويؤمنون أننّا وصَلنا لِمرحلةٍ في التطوير لمْ يَصِل إليها السابقون. ولا شَكّ أنّ الواقع يُكذّب مِثل هذه الدعاوى، فإنْ كُنّا نجَحنا في القضاء على أُمِّية القِراءة والكتابة إلّا أنّنا لمْ نَقضِ على أُمّية الثقافة.
ماضينا:
أبنيةٌ مُتواضعة، ومُعلمون زاهدون، لكنّ العِلمَ مَقرونٌ بالدِّين، وحُرمة المَدرسة عِند طُّلّابِها كحُرمة المسجد، ومَكانة المُعلم لا تَقلّ مَكانةً عن قَدْر الأُمَراء وكِبار القَوم، مَودة بين المُعلم وطُلابه مُوثّقة، ومَحبةٌ بينهُما مُتأصلة، وصُحبةٌ عندهُما مُتواصلة.
يَصحب التلميذ مُعلمه في مدرستهِ ومسجده، ويزورُه ويَجلس مَعه في منزلهِ، فيأخُذ التلميذ عَن أستاذِه العِلم والأدب مَعاً، ويُساعد المُعلم طُلابه على تهذيبِ أخلاقهم وتعديل سُلوكِهم، ويُرشدُهم إلى أفضل الأخلاق وأحاسِن الأعمال.
لا أجِدُ مَجالًا لِشكوى الكثير عن حال طُلاب المَدارس اليوم، وتعامُلهم مع مُعلميهم، إذْ هي نتيجةٌ حَتميةٌ لِواقعٍ أنتجَه البُعد الحقيقي عن رُوح التعليم والاعتزاز بالمعلم، والسبب الحقيقي للتعليم، وتهميش دَور المعلم بِمُسمّياتٍ مختلفة، فغالب الطلاب يَدرسون للحصول على شهادةٍ ثُمّ وظيفة ليس حُباً في ذات العِلم.
لعلّكَ مَررتَ ذاتَ يومٍ على مَدرسةٍ فشاهدْتَ طُلابًا كأنهم مُكْرَهون على الاستماع للدُّروس والحُضور للمدرسة، ولو تخَيّر هؤلاء الطلاب في أمرهم لابتعدوا عن الحِصَص ورفضوها، وزِدْ على ذلك الحالة الواقعة بين المعلم وطلابه، فليس للمعلم مع طُلابه أيّ علاقةٍ تُذكَر سِوى إلقاءِ كلماتٍ مُنتظَمة في حِصصٍ ينتظر أجْرَها بِفارغ الصبر آخر الشهر.
أَرجِعُ بمُخيّلتي حين كتابتي هذه إلى الأزهر المعمور بالعِلم؛ لأحَدِّثكَ عن حِقبةٍ زمنيةٍ ماضيةٍ عاصَرتُها وعِشتُها، حيثُ درسْتُ كغيري في المعاهِد الأزهرية، وفي بُيوت مشايخ الأزهر خارج المعهد، وها أنا أنقُل لكَ هذه المشاهِد التي لا تزالُ حَيّة في ذاكرتي.
يُلقّبُ طلَبة الأزهر أُستاذهم (بسيدي)، فلا يُنادونَه (بالمعلم) أو (الأستاذ) اعتقادًا أنّه أكبرُ من هذين اللفظَين، ويتداول الطلاب أيدي مَشايِخهم بَعد كلّ درسٍ بالتقبيل، ورأيتُ مِن مُبالغة بعضهم أنّ الواحدَ منهم رُبّما يُقَبّل يدَ أستاذه أكثر من مَرة استشعارًا بقيمة العلم وتقديرًا لجهود الأستاذ في سبيل تعليمهم.
رأيتُ آخَرين كذلك يتسابقون في َحمل نعْل شيخهم خارج المسجد لِيكون مُهيأً حين خروجه فيسهل لبسه، وهناك طائفةٌ أُخرى مِن الطلبة تتنافس فيما بينها في حَمل أغراض الشيخ مِن حقيبةٍ وكُتبٍ ونحوها.
نَعم، هذا هو الاحترام والإكبار للعِلم وأهلِه، وهو المذكور قديمًا في كُتب تَراجِم العُلَماء في القرون الماضية حينما كانوا يَذكرون أنّ التلاميذ يحترمون شيوخهم احترامَ الأُمَراء والكبراء.
إنّ خيرَ ما يقوم به المجتمع لتبديد آثار الجُحود الذي يُعاني منه المُعلّمون رَفْع شأنهم وذِكْر مآثرهم وبيان جُهودهم، فشُكرًا لكلّ مُعلم كان سببًا في تعليمنا، شكراً مِن أعماق قلوبنا لكلّ مُعلمٍ جالسٍ في مدرسته يتحسّس مَواطن الخير لطلابه، ومِما لا اختلاف فيه أنّ لكلّ مُعلمٍ جُهوداً مهما كانت لنْ يجدب مَعينها، ولنْ ينقطع فيْضها.
أخُصُّ أساتذتي بالذِّكر والعرفان الجميل، ففي كلّ مجلسٍ أنطِق بفضلهم وأَعترف بسبقهم، ولنْ أستطيع أن أوَفيهم حَقهم وقدْرهم، ولهُم في كلّ سجدةٍ مِن سجداتي دعوة خاصة تقارِن الدعاء لوالدَيّ، ويلهج لساني دَومًا بالدّعاء لهم، وأُرَدّد كغيري: (أسيادنا غفرَ الله لكم، أبواب الجنة مفتوحة لكم).