ثم وضع الشيخ يده على قلبه
د معاذ فرماوى
farmawima@alj.com
بعد محاولات مضنية لم تستطع أنامله المرتعشة أن تغلق منبه هاتفه المحمول فقذفه بعيداً، ثم صرخ جرس الهاتف فسحبه بقدمه وهو يلهث، فإذا بصديقه يخبره بإنتظاره أسفل المنزل للذهاب للشيخ صلاح، حاول أن يثنيه عن الزيارة، لكنه أصر قائلاً حان الوقت يا أديب لتتخلص من الشياطين القابعة فى رأسك، فقام مترنحاً يرتدى ثيابه بصعوبة بالغة، ثم عاد الهاتف للصراخ مرة أخرى فأسرع، وفور دخوله المصعد جلس على أرضه بعد أن خارت قواه.
حاول فتح باب المصعد بعد وصوله فشعر أنه يحرك جبلاً راسخاً، وبمشقة بالغة تمكن من فتحه وأشار لصديقه فلبى طلبه مهرولاً، فرمى أديب بجسده كله عليه، فجره صديقه لمكان السيارة وحمله بصعوبة إلى داخلها، وما أن جلس حتى ذهب فى سبات عميق كالغيبوبة، وغطى صوت شخيره على ضجيج الشارع والسيارت، غير أن صوت بوق سيارة نقل أيقظه ليفتح عينه المنكسرة سائلاً كم بقى من الوقت للوصول للشيخ، فيرد عليه صديقه وقت قصير إن شاء الله.
شعر أديب أن صدره يتصدع بزلزال قلبه المرتجف، فرمى رأسه على المقعد لتذهب به ذاكرته لعدة سنوات مضت، كان شاباً جامعياً بسيطاً، لم تتجاوز أحلامه التخرج من الجامعة والتزوج بمن تشبهه فى فكره العقلانى، فرغم نشأته تحت رعاية والده الأزهرى الصوفى الصالح، لكنه لم يرث عنه إيمانه بالتصوف وطالما أثار ذلك خلافاً بينهما، وكان والده يردد عند خلافهما عبارة “هتهدى وتفهم لما يضع يده على قلبك”، وأعتبر أديب هذه الكلمات من الهذيان والشطحات غير المفهومة.
تعلق قلبه بطباع زميلته بالجامعة فعقلها قائدها فى كل شئ ، وسرعان ما أخبرها برغبته فى الإرتباط بها، خاصة أنه لم يبق على تخرجهما سوى عدة أشهر، فوافقت على الفور، وما هى إلا شهور حتى تخرجا من الجامعة، وتمت الخطبة التى غاب عنها والده، فقد مات قبل شهر من الخطبة، وظلت أخر كلماته وهو على فراش الموت تمثل لغزاً محيراً لأديب وهى “إياك أن ترفض وضع يده على قلبك”.
بعد مدة قصيرة بدأ يشعر بتحول غريب فى كلام خطيبته هند، فإن قال لها إن شاء الله قالت أين الله لنسأله إن كان سيساعدنا أم لا، ولماذا لا يظهر لنا لنتحدث إليه، أنعبد غائباً أخبرنا شخص ما أنه موجود، وعلى أثر تكرار ذلك أصيب بصدمة نفسية، فلم يكن يتوقع أنها قد ألحدت، فألغى الخِطبة، وخلال أيام إنهارت قواه الجسدية والعقلية، وأغلق على نفسه غرفته فصارت له قبراً، وقهرته وحدته فألحد بعد أن إقتنع بكلام هند، وقص لأمه الحقيقة التى كانت كالصاعقة، تلتها صاعقة أشد عندما أكد أنه لا يستطيع الحياة بدونها، فألجمتها الصدمتان لبرهة ثم أخذت تصرخ وتلطم وجهها بشكل متسارع، ودفعته بقوة خارج غرفته وألقته أمام صورة كبيرة لوالده الشيخ فتحى المبروك، وصرخت من قلبها أيتزوج ملحدة من مات أبوه ساجداً ؟، حاول عزل صراخاتها عن مسامعه فوضع يده على أذنه، وفر هارباً لغرفته صارخاً يارب لو كنت موجود حل لي مشكلتى، لتعاود أمه الصراخ واللطم قائلة أتقول له لو كنت موجود، أكفرت ياأديب، ثم فقدت وعيها، وحُملت للمستشفى لتفارق الحياة سريعا بعد إصابتها بجلطة دماغية.
مرت كل هذه الأحداث سريعاً خلال غفوته القصيرة بالسيارة، وأفاق فجأة على صوت عربة إسعاف ليبصر على يمينه يافتة مكتوب عليها “مستشفى رمد امبابة”، فغضب قائلاً لصديقه أتريد خداعي وتدخلنى المستشفى فلما لم تخبرنى بذلك من البداية، فتبسم صديقه وقال إهدأ زاوية الشيخ على بعد أمتار فى الجانب الاخر من الشارع، بذل صديقه محاولات مضنية للوصول لموقف لسيارته، فقال أديب ساخراً كل أصحاب هذه السيارات من مريدى الشيخ، هذا هو التلاعب بعقول السذج أمثالك بإسم الدين، ثم تأمل جمال الزاوية بقبتها المتميزة ووجودها فى منتصف الشارع فعلق مستهزءً نصب بمستوى عالى، وقرأ على المدخل (الزاوية التيجانية)، فيكمل إستهزائه ما هذه الأسماء الغريبة.
دخل على الشيخ وسط مريديه، جلس على أول كرسي قابله، فقد دب فى جسده الإعياء من الأمتار المعدودة التى تحرك فيها من السيارة للزاوية، واستأذن صديقه الشيخ ثم نادى على أديب، تفرس الشيخ وجه أديب وقال له “ما لا تدركه العقول تبصره القلوب”. وتعجب صديقه من عبارة الشيخ فهو لم يحدثه فى الأمر، رد أديب بصوت مضطرب اذا كان العقل بهذا القصور فلماذا خلقه الله بفرض أنه موجود، فرد الشيخ “خلقه لتصل به إليه، لا لتدركه وتدخل به عليه، جئتنى بسيارة صديقك فهل دخلت على بها، فالوصول بالعقل والادراك والدخول بالقلب”، فإنفعل أديب وبدأ يسرد أدلته على عدم وجود الله كطفل يقذف برذاذ ماء، فابتسم الشيخ قائلاً “حتى عقلك أصبح قاصراً عن الوصول إليه، فقد افسدته بفكر جاهل ومنطق قاصر”.
سأله الشيخ هل مازلت تحفظ الفاتحة فقال نعم ، فقال له ردد ورائى ففعل وعلى وجهه علامات التعجب والإستنكار، وتوقف الشيخ عند ( اهدنا الصراط المستقيم )، ثم وضع يده على قلب أديب وأخذ يردد ( اهدنا الصراط المستقيم )، فأراد أديب نزع يد الشيخ من على قلبه، وفجأة تمثلت أمامه صورة والده وصوته وهو يوصيه فى مرض الموت “إياك أن ترفض وضع يده على قلبك”، ويتكرر الصوت فى أذنه كأنه رجاء وتوسل من والده، فاستسلم أديب للشيخ، وأخذ يردد ورائه ومع كل مرة يأخذ نفساً عميقاً وينسحب سواد واضطراب وجهه ويشعر بنور وسكينة يتسللان لقلبه، فوضع يديه على يد الشيخ ليلصقها بشدة على صدره وكأنه يريد أن يشقه ويدخلها فى قلبه، ليشعر بهدوء وسكينة لم يشعر بمثلهما قبل ذلك، وفجأة أخذ يُقبل يد الشيخ ثم سجد وهو يردد (إهدنا الصراط المستقيم) فرفعه الشيخ وقال له ” أتريد أن تستدل عليه بعقلك المفتقر فى وجوده إليه، ومتى غاب ربك حتى يحتاج إلى دليل عليه”، لينكب أديب على رأس الشيخ ويديه يحاول تقبيلهما، فقبل الشيخ يديه، وقال الزاوية مفتوحة للجميع، ثم ابتسم وقال هناك مكان مخصص للسيدات، ففهم أنه يقصد هند خطيبته، مما زاد حيرة صديقه.
يخرج أديب من زاوية الشيخ، ويتأمل السماء والناس والطرقات من حوله ويقول لصديقه كأن الكون كان مظلماً فأنار الأن، والأعجب أن كل ألام جسدى واضطراب قلبى وعقلى قد اختفوا، فإذا به يسمع صوت الشيخ بداخله يقول “يابنى أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك”.