فَلْيكنِ التَّسامِحِ هو شِعارُنا دائماً
خلفان بن ناصر بن سعيد الرواحي
إِنَّ الإِنْسَانَ اجتِمَاعِيٌّ بِفطرتهِ، مَدَنِيٌّ بِطبعهِ، لا بُدَّ لَهُ من التَّعَايُشِ وَالتَّدَاخُلِ مَعَ بَنِي جنسهِ، وذلك مَدْعَاةٌ من أجلِ المصالحةِ مع مَصَالِحِ غَيْرِهِ من الْبَشَرِ، فَقَد تَقَعُ لِسُوءِ فَهْمٍ أو عدمِ توافقٍ في امرٍ ما ؛ أَنْوَاعٍ مِنَ الإِشْكَالاتِ وَالخِلافَاتِ، وَرُبَّما تَتَطوَّرُ إِلَى مُسْـتَوَى النِّزَاعَاتِ وَالخُصُومَاتِ والمقاطعاتِ وعدمِ صلةٍ بينهم؛ لِذَلِكَ وَجَبَ عَلَى المُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ حَذِرًا فِي تَعَامُلاتِهِ، مُتَبَصِّرًا فِي أَخْذِهِ وَعَطَائِهِ بالأسبابِ التي تجنبهِ الوقوعِ في المحذورِ، حَرِيصًا عَلَى بَقَاءِ الوُدِّ بَيْـنَهُ وَبَيْنَ مَنْ وَقَعَ فِي إِشْكَالٍ مَعَهُ من بني البشرِ بشتى درجات القرابةِ والصلاةِ بينهم، سواءً من أرحامهِ أو جيرانهِ أو زملاءهِ أو أصداقاءهِ أو غيرهم، وأن يكونَ حَذِرًا مِنَ الغَضَبِ، آخِذًا بِوَصِيَّةِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أَبي هريرة : أَنَّ رَجُلًا قَالَ للنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أَوْصِني، قَالَ: لا تَغْضَبْ، فَرَدَّدَ مِرَارًا قَالَ: لا تَغْضَبْ -رواه البخاري-، وَذَلِكَ بِسَبَبِ مَا يَصْدُرُ في أَثْـنَاءِ الغَضَبِ مِنْ تَصَرُّفَاتٍ وأَلْفَاظٍ لا تُحْمد عواقبها.
كما ينبغي للإنسان أن يُحسنُ الظنَّ بأخيهِ ، ويُحَسنُ التَّصَرُّفِ فِي مِثْـلِ هَذِهِ المَوَاقِفِ ، فالعاقلُ هُوَ مَنْ يَضْبِطُ كَلامَهُ ويُمْسِكُ لِسانَهُ؛ لِئَلا يَتَفَوَّهَ بِأَيِّ كَلِمَةٍ قَد تَزِيدُ مِنْ تَعْـقِيدِ النِّزَاعِ القَائِمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ سَيَتحينَ الفرصةَ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا فِي مِثْلِ هَذِهِ الخِلافَاتِ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى:(وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) (الإسراء ـ 53)، وَعَلَى المَرْءِ أَنْ يَتَجَمَّـلَ بِالصَّبْرِ وَالتَّحَمُّـلِ إِذَا مَا صَدَرَ مِنَ الطَّرَفِ الآخَرِ شَيْءٌ مِنَ الأَلْفَاظِ الجَارِحَةِ أَوِ الكَلِمَاتِ النَّابِيَةِ، فَإِنَّ هُنَاكَ مَلَكًا يَرُدُّ عَنْهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ أَنَّ رَجُلاً شَتَمَ أَبَا بَكْرٍالصّديقِ رضي الله عنهُ، وَالنَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) جَالِسٌ، فَجَعَلَ (صلى الله عليه وسلم) يَعْجَبُ وَيَتَبَسَّمُ، فَلَمَّا أَكْثَرَ رَدَّ عَلَيْهِ أبا بكرٍ بَعْضَ قَوْلِهِ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَانصرفَ عنهم، فَلَحِقَهُ أَبُو بَكْرٍ الصديقِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَانَ يَشْتُمُنِي وَأَنْتَ جَالِسٌ، فَلَمَّا رَدَدتُ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ غَضِبْتَ وَقُمْتَ؟ !؛ فقَالَ عليهِ الصلاة والسلام:(إِنَّهُ كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عَنْكَ، فَلَمَّا رَدَدتَ عَلَيْهِ بَعْضَ قَوْلِهِ وَقَعَ الشَّيْطَانُ، فَلَمْ أَكُنْ لأَقْعُدَ مَعَ الشَّيْطَانِ)، ثُمَّ قَالَ:(يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلاَثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ مَا مِنْ عَبْدٍ ظُلِمَ بِمَظْلَمَةٍ فَيُغْضِي عَنْهَا للهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلاَّ أَعَزَّ اللهُ بِهَا نَصْرَهُ، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ عَطِيَّةٍ يُرِيدُ بِهَا صِلَةً إِلاَّ زَادَهُ اللهُ بِهَا كَثْرَةً، وَمَا فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ يُرِيدُ بِهَا كَثْرَةً إِلاَّ زَادَهُ اللهُ بِهَا قِلَّةً).
فَلْيكنِ التَّسامِحُ هو شِعارُنا دائماً ، والعفوَ والصَّفحَ هو مفتاحِ القلوبِ ؛ وهو الطريقُ إلى صلاحِ النّفوسِ وتهذيبُها ، وصِلةٍ ورباطٍ بين العِبادِ وربّ العبادِ ؛ فالتسامحِ عند الخصامِ هو من شيمةِ الحُّلماءِ.