فن الصبر بين المثل الشعبي والموال
زينب محمد عبد الرحيم
باحثة في الفولكلور والثقافة الشعبية
تتجلى حكمة الشعب دائمًا في الأزمات, فبينما تأخذ الجماعة الشعبية من السخرية سلاحًا لمقاومة حتميات الواقع فإن حائط الصد الأخير يكون الصبر !! وتظهر لنا الفلسفة الشعبية من خلال الموروث الشفاهي المتمثل في الأدب الشعبي(الفن القولي) وذلك من خلال الأمثال الشعبية و فن الموال الذي عبر من خلاله الإنسان الشعبي عن آلامه وأفراحه .
“فكان الشعب إذا نظر إلى الحياة بعين دامعة وأخرى ساخرة فعبر عن آلامه بأبلغ الأساليب والعبارات ونقد الواقع وسخر منه بإمتياز”(أحمد رشدي صالح).
تتميز الجماعة الشعبية بالمواجهه الجسورة ولكن هذه المواجهه لابد وأن تكون لخصم معلوم أما عن المجهول فتواجهه الجماعة بالصبر ,فالصبر هو انتظار الفرج الذي ربما يأتي من قوى ماورائية أو يأتي من ذاته بالإضافة إلى اليقين من إن الفرج سيأتي لا محال سواء طال عليه الزمن أو قصر وذلك دون تمرد أو نضال.
فتدعو الأمثال الخاصة بالصبر والتسرية إلى الأمل الغامض وكأن الإنسان يُصبر نفسه بإن فرجه قريب ,ومن هنا نجد الأساليب البلاغية وأيضًا الفلسفية تتجلى من خلال هذه الأمثال الشعبية المصرية:
أصبر على الحامي تاكله بارد
أصبر على المر يجي حلو
إغسل غسيل الهم واتكل على الشمس
أيوب صبر لما أتمحى المكتوب
فنجد المثل الشعبي يختزل الموقف كاملًا في عبارة (نثرية) بلاغية قصيرة مستخدمًا التشبيهات والكنايات التقليدية , فهي عبارة موجزة صادقة نابعة من تجربة إنسانية واعية , وبعد ذلك يتفق عليها العقل الجمعي ويرددها وتصبح ذائعة بين جميع طبقات الشعب وأيضًا تتواتر بالرواية الشفاهية وكلما كان المثل حي ويؤدي حاجة مُلحة كلما إمتد وضمن استمراريته عبر العصور.
لأن الشعب هو الذي ينتج تلك الأمثال وتكون جزء أصيل من ثقافته الشفاهية فالمثل حكمة الجماعة وذكاء الفرد (راسل) , وتكمن وظيفة المثل وأهميته في ألتصاقه بالحياة اليومية للفرد فالمثل يُعبر عن ما نريد أن نقوله وربما لا يمر موقف اجتماعي أو سياسي إلا واستخدمنا مثلًا شعبيًا متوارث ومتواتر .
فيقول لنا المثل المصري الأصيل (أصبر على جارك السو) فالصبر هنا ليس ضعفًا أو قلة حيلة ولكنها حكمة الانتظار والتعايش مع الصعب والتكييف مع الوضع القائم على أمل أن يتغير يومًا ما إذا توافرت الادوات والمعطيات التي ستغير هذا الواقع برحيل هذا الجار فيزيقيًا أو ميتافيزيقيًا .
ويقول الدكتور الأهواني” كثير جدًا من الأمثال لا يشتمل على سلوك أو توجيه وإنما يضطلع بوظيفة أدبية أو بلاغية تقصد إلى عرض صور فنية تُمتع الحس وترضي النفس بما تشتمل عليه من تشبيه دقيق أو مفارقة مضحكة أو فن من القول طريف ومن هنا تقوم الأمثال بما تقوم به بعض الفنون من التقاط صور طريفة من الحياة لا تهدف من ورائها غير الإمتاع الفني ”
الصبر والموال
يعتبر الموال من أهم إبداعات وفنون الشعر الشعبي فالموال له ألوان منها الموال الأخضر الذي يعبر عن الحب والفرح , والموال الأحمر المعبر عن الآلم والضغوط ومواجع الواقع اليومي وهذا هو محور حديثنا عن الموال الأحمر موال الصبر فالموال يضرب بجذوره في أعماق التاريخ والشعر الشعبي في أغلب الأحيان يكون مجهول المؤلف أو ربما الذي جمع هذه الأشعار والمواويل تجاهل المؤلف وربما مع كثرة التواتر شفاهيًا عبر الزمن فقدنا المؤلف الأول للنص وأصبح هذا النص ملكًا للجماعة الشعبية ويكتسب النص صفة الاستمرارية لأنه لسان حال الشعب .
الموال لسان حال البسطاء والغلابة فيقول الشاعر الشعبي :
يا تاجر الصبر عندكشي تبيع منه؟
قال لي ماينبعشي واعلم يا جدع إنه
منزل ويريده كثير خف القدم عنه
لتضيع أمانه وناسه يتهموها فيك
تبقي أنت مظلوم وغير منتفع منه
فالصبر هبة وعلاج نفسي رباني لايباع ولا يشترى وانما يُكتسب بالزُهد
وهناك موال آخر عن الصبر نورد منه جزءً :
مصير جراحك على طول الزمن تبرا
ويجيلك الطب لا تعلم ولا تدرى
مثل سمعناه منقول عن ذوي الخبرة
الصبر يا مبتلي عملوه للفرج مفتاح
فالموال في حد ذاته اداة من أدوات فن الصبر وذلك لأنه مقرون بأغاني العمل وقد صار الموال أكثر إنتشارًا على ألسنة الرواة الشعبيين وشعراء الربابة , فالموال هو قالب الأغنية وقلب القصة الشعرية ويقدم في الأسواق والمقاهي (قديمًا) والسامر والموالد ونجد الموال منتشر في الصعيد والدلتا , ويتركب الموال من( فرش ) و(غطاء) و(قفلة)
ولدينا الموال المردوف الذي يعرض معاني الشكوى والصبر على هموم الزمن فكل آهه تفسرها شطرة من الموال الاوله تعبر عن أعباء الحياة والثانية شكوى من الحبيب الذي مال إلى غيره كما يلي:
فرش الموال
الأولة آه ,والثانية آه ,والثالثة آه , والرابعة آه
الأوله آه حملى غَصب عني مال
والثانية آه من عشرة الأندال
والثالثة آه خس مني المال
والرابعة آه غزالي عند خصمي مال
ونرى أن الشاعر نسج الآهات وصاغ الموال ليجعل الجمهور يترقب تسلسل الأحداث في شغف وهنا تظهر براعة الراوي ومدى إبداعة في رواية الموال ومدى إعتماده على ذاكرته الشفاهية والمخزون من الخبرات ليعيد توظيفه داخل السياق فالنص الشعبي دائمًا يتعرض للحذف والإضافة لعدة عوامل أهمها الزمن فيلجأ الراوي لتغير بعض الألفاظ لتلائم روح العصر ويكون لها وجود حي داخل المجتمع ولكن متن النص يظل ثابت وراسخ في الذاكرة الشعبية معبرًا عن الآلامها وأيضًا أفراحها فالجماعة الشعبية دائمًا ما تنتصر على واقعها بالحكمة والفن الشعبي الأصيل , وتظل حكمة الصبر تظهر في المواقف والأزمات وحكمة أهلنا وناسنا دائمًا تقول “الصبر مفتاح الفرج”.