وماتَ جريح القلبِ مندملَ الصدرِ

خليفة بن سعيد السعيدي
كان يناير يركض في شوارع لندن، يعتصر البرد الطرقات، يدوي الصقيع في جسر البرج، يتدفق نهر التايمز بشيء من الاستحياء، تدق ساعة بيج بن مكشَّرة عن الساعة التاسعة مساءً من شتاء عام ١٩٧٢م، تزفر المداخن بالدخان، يتشظى الشرر من مدفئة في فندق دورتشستر، بجانبها يقعد شيخ مكتهلا في العقد السادس من عمره، يستدبر من الدنيا أكثر مما يستقبل، ذو عينين حزينتان، ووجه مستدير ولحية كثة تنبئ عن وقاره..
تكتنز ذاكرته بنصل الخناجر، طلع النخيل وسواقي الأفلاج، الرؤساء والشيوخ والقبائل، القلاع والحصون، رذاذ ظفار، صقيع شمس مسقط، وشعبه الذي لم يفهمه…
تختنق التفاصيل في رأسه يزفر زفرة الشيخ العماني وهو يستعيد زمنه الغابر وهو يقول (هيه هيه).
يتدفق نهر التايمز، تدق ساعة بيج بن ويختلط دخان المداخن بالضباب فيربض على دهاليز لندن وشوارعها..
يقوم السلطان سعيد بن تيمور متباطئ نحو الشرفة المطلة على فناء الفندق وهو يصوِّب بصره إلى فورة ذاك الشاب العشريني الذي استلم الحكم وخزينة الدولة خاوية على عروشها وهي تئن تحت وطئة الديون التي أثقلت كاهلها ومواردها الشحيحة، التناحر بين القبائل بين عمان الداخل والساحل…
يتكئ بيده على عصاه وهو يستذكر كيف أنه خُفِضَ راتبه من سبعة آلاف روبية إلى ثلاثة آلاف روبية في الشهر، بيعه ليخته وسيارته لتخفيف الآثار الاقتصادية الصعبة التي ترزح تحتها البلاد، صموده أمام التحديات الجسام إبان الحرب العالمية الثانية…
يعود إلى المنضدة التي تتوسط غرفته وهو يحمل قرابة أربعة عقود من محاولات توحيد وترميم عمان، مقاومته العنيدة للضغوطات التي يمارسها الإنجليز لاقتطاع رقعة البلاد من جوادر إلى جزر كوريا موريا (الحلانيات) ورحلته في البحث عن النفط..
يأكله الحنين إلى وطنه، يجف قلبه وكأنه يتحرق كالرمضاء ويرق كالنسيم وهو يسافر بأنفاسه إلى هواء ظفار، أشجار النارجيل، وقصره في بيت الفلج، يرتمي بجسده إلى الكرسي المنتصب خلفه وهو يقول :
وأنفاس الصبا تلقى ظفارا
أحب إلي من أنفاس نجد
أحن حنين ألف في هواها
كأن ظفار مزجت بشهد
يتناول السلطان سعيد بن تيمور المذياع المنتصب فوق المنضدة أمامه، يدير موجة التشغيل تدق ساعة بيج بن (السلام عليكم ورحمة الله أيها السادة، الحادية عشر مساءً بتوقيت جرينتش، هنا لندن) يطفئه وهو يستعيد غربة المنافي محاولاً أن ينير تلك الغصة المتخشبة في كهوف صدره، وهو يردد أبريل ١٩٦٦م،
ذلك الحاجز الذي أفقده الثقة، الذي هزه من الداخل وزرع فيه من الوهن والترهل أعواما،
تلك الآمال التي بناها لخدمة وطنه وشعبه ولكنه كان واثقاً أن ذلك الابن الذي أستخلفه لا يألو جهداً في السير قدماً لنهضة عمان..
شاخ الحطب في المدفئة
ومضت الساعات في استهلاك نفسها، صلَّى السلطان سعيد ركعتان وضميره يتأرجح بين المغفرة والزلة؛ للوطن والشعب والمنفى والإنجليز ومضى إلى مقبرة بروك ودد وهو يقول :
حارب فؤادك ما استطعت
ولا تكن في الانقياد
إلا على حب المواطن
والمعارف والبلاد
ودع الأمور لربها
فلعله يكفيك زاد
يركض يناير في شوارع لندن تدق ساعة بيج بن، يتدفق نهر التايمز ويتشح فندق دورتشستر بالضباب، الكآبة ورائحة الموت..
يقول الراوي :
بغض النظر عن الصورة السلبية التي رسمت للسلطان سعيد بن تيمور وترسخت في الأذهان إلا أنني لا أملك إلا أن أتعاطف عندما أرى عزيز قومٍ ذل،
ولا شك أن فترة حكمه لها ظروفها وأيامها، إلا أن جل العمانيين يؤمنون أن نتائج تلك الحقبة كانت هي الساس المتين التي بنيت فوقه عمان.
وفي أغسطس من عام ١٩٧٢م، توسَّد السلطان سعيد بن تيمور رذاذ ظفار وشاطئ مطرح، وسعف النخيل وضباب لندن ومات جريح القلب مندملُ الصدرِ..